المنشورات

ثار حَابِلُهُم على نَابِلِهِم

الثور: الهيجان والوثب: ثار يثور ثوراً فهو ثائر وأثرته وثورته واستثرته.
والحابل يطلق على من شد الشيء بحبل، ومنه المثل الآتي: يا حابل اذكر حلاًّ! وعلى من نصب الحبالة للصيد أو أخذه فيها. يقال: حبل الصيد واحتبله: إذا أخذه أو نصب له. والنابل والنبل: صاحب النبل وصانعه. والنبل: السهم قال امرؤ القيس:
نطعتهم سلكي ومخلوجة ... كرك لأمين على نابلِ
أي نطعنهم طعنا مستقيما وطعنا معوجا من كل وجه. كرك لأمين أي كردك لأمين أي سهمين على نابل أي على رامٍ في السرعة. وقال أيضاً:
وليس بذي رمحٍ فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال
ويقال إنَّ الحابل في هذا المثل السدى والنابل الطعمة: فإذا قيل في القوم إنهم

ثار حابلهم على نابلهم كان معناه أنهم أشتجروا وأوقدوا الشر فيما بينهم.
ومما يلتحق بهذا الباب قولك: أثقل من الحديد ومن الرصاص ومن حلول الدين مع الاقتار، ونحو ذلك وهو مطرد. وقولهم: ثل عرش فلان إذا هوى أمره وتضعضع عزه وذهب ملكه. قال زهير:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشهم ... وذبيان قد زلت بأقدامهم النعلُ
وثلَّ اللهُ عرشه: فعل به ذلك. وقال الأخر:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
والعرش سرير الملك، وسقف البيت، والعز وقوام الأمر ومنه ما ذكر.
ولنذكر بعض ما تيسر من الشعر. قال أبن الرومي:
يا مادح الحقد محتالا له شبه ... لقد سلكت إليه مسلكا وعثا
يا دافن الحقد في ضعفي حنوانحه ... ساء الدفين الذي أضحت له جدثا
الحقد داء دوي لا دواء له ... يدوي الصدور إذا ما جمره حرثا
فأستشفينه بصفح أو معاتبة ... فإنما يبرئ المصدور ما نفثا
إنَّ القبيح وإنَّ ضيعت ظاهره ... يعود ما لم منه مرة شعثا
كم زخرف القول ذو زور ولبسه ... على القلوب ولكن قل ما لبثا
وإنّما قال ذلك لأنّه قال: أيضاً في مدح الحقد:
لئن كنت في حفظي لمّا أنا مودع ... من الخير والشر انتحيت على عرضي
لمّا عبتني إلاّ بفضل أمانة ... ورب امرئ يزري على خلقٍ محض
ولولا الحقود المستكنات لم يكن ... لينقض وتراً آخر الدهر ذو نقض
وما الحقد إلاّ توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدا على ذي إساءة ... فثم ترى شكرا على حسن القرض
واخذ ذلك من قول أبن صالح، حين أتي به الرشيد وهو في قيوده، فقال له يحيى بن خالد وأراد أنَّ يسكته: بلغني انك حقود! فقال له: أيها الوزير، إنَّ كان الحقد هو بقاء الخير والشر، انهما لباقيان في قلبي! ويروى إنّه قال له: إنّما صدري خزانة لحفظ ما استودعت من خير وشر. فقال الرشيد: تالله ما رأيت أحداً احتج للحقد بمثل ما احتج به! وقال الأخر:
ما طلب فرع أصله خبيث ... ولا زكا من مجده حديث
وقال الأخر:
إنَّ قوما يلحون في حب سعدي ... لا يكادون يفقهون حديثاً
سمعوا وصفها فلاموا عليها ... وأخذوا طيبا وأعطوا خبيثا
وتقدم هذا المعنى قبل مستوفي.
وقال أبو دلامة:
إنَّ الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإنَّ بحثوا عني ففيهم مباحث
وكانت لرجل عنده شهادة في الحق، فلما طلبه بالأداء قال له: إنَّ شهادتي لا تنفعك عند القاضي. فقال له الرجل: لابد من شهادتك! فشهد أبو دلامة وانصرف وهو يقول الشعر المذكور. فحكم القاضي بشهادته وغرم المشهود عليه المال حتى قبضه المشهود له، فغرمه القاضي للمشهود عليه خوفا من ظلمه ليجمع المصلحتين. وقيل إنَّ أبا دلامة استأجر طبيبا ليعالج ابناً له مبلغ من الأجرة، فلما داواه قال للطبيب: إنّه ليس عندي ما أعطيك، ولكن أذهب وادع بهذا المبلغ على من شئت! وقيل إنّه قال له ادع على فلان اليهودي به، وإني وأبني نشهد لك! فأدعى الطبيب على اليهودي، فجاء أبو دلامة وابنه يشهدان له عند القاضي أبن أبي ليلى أو أبن أبي شبرقة فلما علم أبو دلامة أن القاضي لا يجيز شهادتهما أنشد بحيث يسمعه القاضي ما مر. فلما سمع القاضي ذلك حكم بشهادتهما خوفا من أذاه، وغرم ذلك المبلغ للمحكوم عليه، والله اعلم.
ومن هذا المعنى ما ذكر أبن رشيق عن العتبي من أن رجلا من أهل المدينة ادعى حقاً على رجل، فدعاه إلى أبن حنظب، القاضي المدينة، فقال: من يشهد بما تقول؟ فقال: زنقطة فلما ولى قال القاضي: ما شهادته له إلاّ كشهادته عليه. فلما جاء زنقطة أقبل على القاضي وقال له: فداك أبي وأمي! أحسن والله الشاعر حيث يقول:
من الحنظبيين الذين وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا
فأقبل القاضي على الكاتب وقال: كبير ورب السماء! ما أحسبه شهد إلاّ بالحق. أجز شهادته! وقال الصفدي:
صبري الذي اقتسمته غربة ونوى ... كأنما لهما في ذاك ميراث
وكل يومٍ على ما فيه من هرمٍ ... يلقى صروف الليالي وهي أحداث
وقال أبن الحداد يرثي:
شمس الظهيرة هل تدرين ما حدثا؟ ... شمس العشيرة حلت مغربا حدثا
انظر ثبيراً هل أنهدت جوانبه ... لحادث في ثبير الحلم قد حدثا
ومن المستحسن في باب الرثاء قول أبي الفرج الجوزي، وقد ليم على اكتحاله يوم عاشوراء:
ولائم لي على اكتحالي ... يوم أراقوا دم الحسين
فقلت: كفوا! أحق شيءٍ ... فيه بلبس السواد عبني
وقال الأخر يرثي بعض الأمراء:
كان الأمير نظام الدين لؤلؤة ... قد صاغها الله من مجد ومن شرف
عزت فلم تقدر الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف
وقمل الآخر في غلام له يلقب بالسيف:
ستذرف أجفاني عليك دموعها ... ولا غرو أن تبكي على السيف أجفان
بكتك عيون الشهب إذ كنت بدرها ... وغالك من قبل التتمة نقصان
وشقت يمين الصبح فيك عن الدجا ... قميصا فأضحى وهو للحزن عريان
وقال الزمخشري يرثي شيخه:
وقائلةٍ: ما هذه الدرر التي ... تناثر من عينيك سمطين سمطين؟
فقلت: هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أذني تساقط من عيني
وقول أبن الحداد:
شقيقك غيب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده!
فهلا خسفت فكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده؟
وقول أبن المعتز:
لم تمت أنت إنّما مات من لم ... يبق للمجد والسماحة ذكرا
لست مستسقيا لقبرك غيثا ... كيف يسقى وقد تضمن بحرا؟
وقول العطوي في رجل كان يعول أناسا كثيرين فمات:
وليس صرير النعش ما تسمونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف
وليس فتيت المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف
وقال أبن عبدون الوراق:
قبرٌ بسوسة قد قبرت به الفتى ... أدرجت قلبي في مدارج لحده
أسكنته سكنى ورحت كأنني ... في الأرض لا بشراً أرى من بعده
صمت عليَّ مسامعي في وجهه ... ز صعقت من صعق الصراخ ورعده
وجهدت أن أبكي فلم أجد البكا ... فسكت سكتة صارمٍ في غمده
هبني بكيت له وما يجدي البكا؟ ... ماءٌ بخدي والتراب بخده!
وهذا الباب كثير لا يأتي عليه الحصر.
ومن أشهر المراثي وأحسنها مرثية أبي الحسن الأنباري في أبي بقية حين قتله عضد الدولة وصلبه وأولها:
علوٌّفي الحياة وفي الممات: ... لحقٌ أنت إحدى المعجزاتِ!
وهي مشهورة معروفة. ولمّا اشتهرت ووصلت إلى عضد الدولة وأنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب! وقال أبن نباتة في النسيب:
يا رب خالٍ على خدِّ الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبثُ
أورثته حبة القلب القتيل به ... وكان عندي أنَّ الخال لا يرثُ!
وفي الخال قول الحاجري:
عجبت لخالٍ يعبد النار دائماً ... بخدك لم يحق بها وهو كافرُ
وأعجب من ذا الله تعالى طرفك منذرٌ ... يصدق في آياته وهو ساحرُ
وما أخضر ذاك الخد نبتاً وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائرُ
ومذ أخبروني أنَّ قدك بانةٌ ... تيقنت أنَّ القلب مني طائرُ
وفي القد قول الآخر::
بروحي معشوق الجمال فما له ... شبيه ولا في حبه لي لائمُ
تثنى فمات الغصن من حسد من حسدٍ له ... ألم تره ناحت عليه الحمائمُ؟
وقول الآخر:
قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك
قال: قول الوشاة عندي ريحٌ ... قلت: أخشى على غصن أن يستميلك
ويشبه هذا ما حكي أنَّ رجلا دخل دارا ينظرها ليشتريها فسمع في بعض خشبها صوتا فقال: ما هذا؟ فقال صاحب الدار: أعزك الله! هذا السقف يسبح لله عز وجل. فقال: أخشى أن يلحقه الخشوع فيسجد.
وقال لبن خفاجة:
وعشيِّ أنسٍ أضجعتني نشوةٌ ... فيه تمهد مضجعي وتدمثُ
خلعت عليَّ بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدثُ
والشمس تجنح للغروب مريضةً ... والرعد يرقي والغمامة تنفثُ
ومما يستلذ في هذا المعنى قول الآخر:
عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثرِ
ولتغتبقها قهوةٌ ذهبيةٌ ... من راحتي أحوى المدامع أحوارِ
وعشية كم كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد يعذرِ
نلنا بها آمالنا في روضةٍ ... تهدي لناشقها نسيم العنبرِ
والورق يشدو والأراكة تنثني ... والشمس ترفل في قميصٍ أصفرِ
والروض بين مفضض ومذهبٍ ... والزهور بين مدرهم ومدنرِ
والنهر مصقول الأبطاح والربا ... والشط بين مزعفرٍ ومعصفرِ
وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضرِ
وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهرِ
وكأنه وجهاته محفوفةٌ ... بالورد والريحان خد معذرِ
نهرٌ اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلاّ لفرقة حسن هذا المنظرِ
وقول مالك بن المرحل:
وعشيةٍ سبق الصباح عشاءها ... قصراً فما أمست حتى أسفرا
مسكينةٍ لبست خلى ذهبيةً ... وجلا تبسمها نقاباً أحمرا
وكأن شهب الجم بعض حليها ... عثرت به من سعةٍ فتكسرا
وقال أبو النصر عبد الجبار:
عليك بأغباب الوصال فضده ... يعيد حبال الوصل منك رثاثا
فلو كلف الإنسان رؤية وجهه ... لطلقه بعد الثلاث ثلاثا
ومثله قول الآخر:
عليك بإغباب الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا
وسيأتي هذا المعنى إن شاء الله تعالى وقال الحموي:
أنَّ قوماً يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا
سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيباً وأعطوا خبيثا
وهذا من الاقتباس وهو أن يؤتى في الكلام المنثور أو المنظوم بلفظ يشبه لفظ القرآن أو الحديث غير منوي به إنّه قرآن أو حديث. ولا بد من هذا القيد الآخر: ولذلك ساغ سوق اللفظ مع تغيير فيه أو في معناه ولا يلزم فيه كفر تبديل القرآن ولا خلاف نقل الحديث بالمعنى. ولنذكر طرفا من ذلك هاهنا: فمن الاقتباس من القرآن في النثر قول الحريري: فلم يكن إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب. وهو في الشعر أكثر. ثم إنّه قد يكون اللفظ المقتبس بيتا كاملا كقول أبي محمد بن السيد البطليوسي في بعض مواضعه:
خففوا ثقل الخطايا ... أفلح القوم المخففون!
كيف تعطون من الباقي ... وبالفاني تضنون؟
لن ينالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون!
وقول أبن العفيف:
يا عاشقين حاذروا ... مبتسما من ثغره!
فطرفه الساحر قد ... شككتم في أمره
يريد أن يخرجكم ... من أرضكم بسحره
وقد يكون شطر البيت كقول أبي فراس:
قد كان بدر السماء حسناً ... والناس في حبه سواءُ
لا تعجبوا! ربما قديرٌ ... يزيد في الخلق ما يشاءُ
وقول محيي الدين البغدادي:
إن لا مني من رلا رآه فقد ... جار على الغائب في الحكمِ
وإن لحاني من رآه فقد ... أضله الله على علمِ
وقول أبن الدماميني وقد رأى جرة خمر كسرت فساحت الخمر على الأرض:
كسروا الجرة عمداً ... ملؤوا الأرض شرابا
قلت والإسلام ديني: ... ليتني كنت ترابا!
وقلت أنا في نحو هذا أخذا منه:
عثرت هيفاء تحكي ... بدر تمٍّ حين غابا
قبَّلَ التراب لماها ... ونضا عنها النقابا
وجنى ورداً ونداً ... وارتوى منها رضابا
قلت لمّا عانقته: ليتني كنت ترابا!
وقد يكون أقل من الشطر الثاني كقول أبن النبيه:
قل لراسي الجفون إنَّ لجفني ... في بحار الدموع سبحا طويلا
وهي قصيدة على هذا النمط، أخذ قوافيها من سورة المزمل.
ولابن سهل الإسرائيلي قصيدة أخرى مثلها، اخذ قوافيها من سورة مريم، وكلتاهما مشورة. ومن ذلك قول بعضهم:
إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب: ميعاد السلو المقابر
سيبقى لها في مضمر القلب والحشى ... سرائر ود يوم تبلى السرائر
وقولنا:
في ظيبة هيفاء من أجفانها ... سحر الجفون البابلي تواتراً
فإذا انتضت من جفنها غضبين من ... جفنين قلنا: ساحران تظاهراً
وفي التورية في الجفنين. وهذا الاقتباس هنا مما اختلف فيه الأصل والفرع معنى من جهة الحقيقة والمجاز. ومثله قول أبن الرومي يخاطب رجلا مدحه ولم يثبه:
لئن أخطأت في مدحك ... ما أخطأت في منعي:
لقد أنزلت حاجتي ... بوادٍ غير ذي زرعٍ
فأنه جعل مجازا عن الرجل الذي لا خير فيه وهو في الآية حقيقة.
ومن الاقتباس في الحديث قول بعضهم:
قال لي إنَّ رقيبي ... سيئ الخلق فداره
قلت: دعني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره
أخذ من الحديث: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وقول بعضهم في غلام اسمه بدر فيه تورية:
يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري
وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري
فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر!
اخذ من الحديث: لعل الله أطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم! وقول بعضهم:
ومهفهفٍ يزري على القمر ... وجناته روض في الزهر
خالسته نوار وجنته ... وأخذ منها على حذر
فأخافني قوم فقلت لهم: ... لا قطع في ثمر ولا كثر
فقوله: لا قطعتم في ثمر ولا كثر هو لفظ حديث. والكثر جمار النخل. وقد زاد بعضهم الاقتباس من الفقه، وزاد أخرون الاقتباس من سائر العلوم. فمن الاقتباس من علم الفقه قول أبي تمام:
إنَّ حراما قبول مدحتنا ... وترك ما نرتجي من الصفد
مثل الدنانير بالدراهم في ... الصرف حرام إلاّ يدا بيدِ
شرطت عليهم عند تسليم مهجتي ... وعند انعقاد البيع قربا يواصل
فلما أردت الأخذ بالشرط عرضوا ... وقالوا يصح البيع والشرط باطل
وقول مالك بن المرحل موريا:
مذهبي تقبيل خد مذهبٍ ... صاحبي ماذا ترى في مذهبي؟
لا تخالف مالكا في رأيه ... فيه يأخذ أهل المغرب!
وقول أبن العفيف:
قضاة الحسن ما صنعي بطرف ... تمنى مثله الرشا الربيب؟
رمى فأصاب قلبي باجتهادٍ ... صدقتم: كل مجتهد مصيب!
وقول أبي عبد الله الشران، وقد كان عند أبن جماعة إعذار، فدعا البلد، ولم يدع الشران فكتب إليه الشران:
ماذا أعد المجد من أعذاره ... في ترك دعوتنا إلى إعذاره؟
إنَّ كان رسم دون محضرنا اكتفى ... لا بد إنَّ يبقى على إعذاره
ومن الاقتباس من علم قول أبي بكر بن حجة الحموي:
أيا عرب الوادي المنيع حجابه ... وأعني به قلبي الذي به خيموا
رفعتم قبابا نصب عيني نحوها ... تجر ذيول النوق والقلب يجزم
منعتم تحيات السلام لموتنا ... غراما وقد متنا فصلوا وسلموا!
وقول البوصيري:
خفضت كل مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
وقول بهاء الدين زهير:
يقولون لي أنت الذي طار ذكره ... فمن صادر يثنى عليك ووارد
هبوني كما قد تزعمون أنا الذي ... فأين صلاتي منكم وعوائدي؟
ومرض شرف الدين بن عنين، فكتب إلى الملك المعظم بن المكل العادل:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلاف
أنا كالذي يحتاج ما يحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي
فلما بلغه البيتان، نهض إلى زيارته واستصحب ألف دينار. فلما دخل عليه وعاينه قال له: أنت كالذي هو موصول، يحتاج إلى صلة وعائد، فهذه الصلة وأنا العائد.
وقول السليماني:
وإني الذي أقصيته وهجرته ... فهل صلة أو عائد منك للذي؟
وقولنا من أبيات:
فلم يكن عن ذلك فعلي معربا ... تغنيت بالماضي من الحال والأمر
وفولنا من أخرى:
قصر الهناء أسى لغير ضرورةٍ ... لولا نواكم، والهوى ممدود
ومن أظرف ما وقع في ذلك قول أبن جابر يخاطب معزولا عن ولاية:
فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه!
ومن الاقتباس من علم الحديث قول أبن جابر:
نقل المسواك فيما قد روى ... أنَّ ذاك الريق مسك وعسل
قلت: عن من؟ قال: عن مبسمها ... قلت: هذا خبر صح وجل
مذ تبدى جوهر الثغر لنا ... صح في حسن لدينا ما نقل
وقولنا في هذا المعنى:
نقل النسيم عن الأرائك محدثا ... عن ثغر سلمى الأشنب الواضح
وحديثه المروي أنَّ رضابه ... عسل ومسك شوبا بالراح
يفتر العقدين من برد صفا ... ولآلئٍ منضودة وأقاح
صدقا أحاديث الصحيحين اعتلت ... عن ريبة تغزى لها من لاح
ومن الاقتباس من علم أصول الفقه قول أبن جابر:
جئتها طالبا لسالف وعد ... فأجابت: لقد جهلت الطريقه
إنّما موعدي مجاز فقلت: الأصل ... في سائر الكلام الحقيقه
وقوله أيضاً:
لا تعجبوا من عموم الحب في الرشإٍ ... كل الجمال له في الناس مخصوص
بدر ولكن إلى الغزلان منتسب ... قد نص ذلك جيد منه منصوص!
وقول آخر:
كيف لي بالسلو عنها وقلبي ... قد هوى حمله بمهوى الخرص؟
ما تعصيت ظاهر الصبر إلاّ ... ردني جيدها بأوضح نص
وقول أبي بكر بن حجة، رحمه الله تعالى، وهو في الفنين معاً.
بوادي حماة الشام أيمن الشط ... وحقك تطوى شقة الهم بالبسط
بلاد إذا ما ذقت كوثر مائها ... أهيم كأني قد ثملت بإسفنط
فمن يجتهد في أنَّ بالأرض بقعة ... تماثلها قل: أنت مجتهد مخطي
وصوب حديثي مائها وهوائها ... فإن أحاديث الصحيحين ما تخطي
ومن الاقتباس من علم الكلام قول أبن جابر:
عرض الحب دون جوهر ذاك ... الثغر من أكبر المحال بجود:
أجمع الناظرون في ذاك أنَّ لا ... عرض دون جوهر في الوجود
وقولنا من أبيات:
فالجسم بالٍ ذو وبالٍ بعدكم ... أبدا به عرض الشحوب جديد
وفي هذا البيت الجناس بين بالٍ وبالٍ، والاقتباس في الجسم والعرض، ومراعاة النظير بذلك الاعتبار، والطباق بين البلى والجدة.
ومن الاقتباس من علم المنطق قول أبن جابر:
مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متصله
تمنعا الجمع والخلو معا ... وإنّما ذاك حكم منفصله
وقول أبن الخطيب:
حتى إذا فرض الجلاد جداله ... ورأيت ريح النصر ذات هبوب
قدمت سالبة العدو وبعدها ... أخرى بعز النصر ذات وجوب
وإذا توسط حد سيفك عندها ... جزئي قياسك فزت بالمطلوب
وقول الآخر:
يا دمع أجفاني أطرد يا حر ... أضلاعي أتقد يا قرح اكبادي أنتك
ويقل إتلاف النفوس تلفها ... لفوات حظ منك لم يستدرك
أملي يشك وعفوكم متواطئ ... فأصار من متواطئ لمشكك
مالي سواك لمن أمد يد الرجا ... متمسكا يا ملجأ المتمسك!
ومن الاقتباس من علم العروض قول الآخر:
له جيش نصر قد نضى السعد دونه ... صوارم روع لا تلقيها القوانس
إذا ما قوافي الخيل فيه تداركت ... فأبشر بنصر بحره متكاوس!
وقولنا من قصيدة:
سلام طويل الحب فيكم مديده ... فليس بذي نهك وليس بذي شطر
وقولنا أيضاً في التغزل:
يا شادنا يصيد أساد غيل ... بقوس صدغين وسهم كحيل
بم استبحت دمي الحرم في ... قتلي وحرمت وصالي الحليل؟
وقطع سببي من ودا ... دك وذا لا يرضينه الخليل
وفي الخليل التورية وفي الأبيات أنواع أخرى من البديع ظاهرة.
ومن الاقتباس من علم الهيئة قول الغزالي:
يا حسن ليلتنا التي قد زارنا ... فيها فأنجز ما مضى من وعده!
قومت شمس جماله فوجدتها ... في عقرب الصدغ الذي في خده
وقوله أيضاً:
حلت عقارب صدغه من خده ... قمرا يجل به عن التشبيه
ولقد عهدناه يحل ببرجها ... ومن العجائب كيف حلت فيه!
ومن الاقتباس من علم الهندسة قول أبن جابر:
محيط بشكل الملاحة حسنه ... كأن به أقليدسا يتحدث
فعارضه خط استواءٍ وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث
ومن الاقتباس من علم الخط قول أبن جابر أيضاً:
فوق خديه للعذار طريق ... قد بدا تحته بياض وحمره
قيل ماذا؟ فقلت: أشكال حسنٍ ... تقتضني أنَّ أبيع قلبي بنظره
واعلم أنَّ معظم ما نشدنا، لك إنَّ تجعله من باب الإيهام تورية أو توجهها لا من باب الاقتباس والخطب سهل.
ومما جمع ثلاثة فنون مما مر قول بعضهم:
دارست قلبي الصبر أعتده ... عن عاصم لي منك أو نافع
فلم يكن يرفع ما حل بي ... ورب فعل ليس بالرافع
ضل بي المذهب يا مالكي ... فهل لذلك الوجه من شافع؟
ومثل هذا قول الآخر:
من شافع لي عند مالك مهجتي؟ ... مالي سوى حبي وليس بنافعي
فمن المحقق أن مذهب مالكٍ ... لا تستقيم لديه حجه شافعي
وهذا الباب أكثر من أن يأتي عليه الحصر.
وقال أبن العربي، وقد وقف عليه مليح وهو في مجلس فهز ومحا بيده، ارتجالا:
يهز علي الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث
فلو كان رمحا واحدا لا تقينه ... ولكنه رمح وثان وثالث!
وهذا غاية في القوة العارضة أنسجاما وحسن سبك وصحة معنى، الارتجال وصعوبة القافية. وقد وقع إشكال لجماعة من الأدباء في الشعر وما أريد فيه، وذلك من حيث لم يعتد استعمال الرمح في العيون؛ وإلاّ فهو بين واضح.
وقلت أنا:
لا يلهينك من فتى سرباله ... وبهاء منظره ورونق نفثه
أو تقتحمه من رثاثة زيه ... فتجول في إطرائه أو مغثه
حتى تبين قدره عن فره ... ولجينه عن بحثه
وتميز عن طول الزمان هشيمه ... من غضه وسمينه من غثه
ونفاذه غرض النوائب إنَّ دجت ... من طيشه ووفاء من ملثه
ومقام ما أستودعه من كامن ... الأسرار في كتمانه أو نثه
وترى إذا ما شمت بارق وعده ... أن قد مطرت بوبله أو دثه
وترى جلية قوله إما روى ... نبا لدى تهذيبه أو مقثه
وترى بمرجاس البصيرة غوره ... في وده للأصدقاء ودعثه
فهناك إن احمدته فلتصفه ... ودا وإلاّ فلتحد عن وعثه
فلرب ذي ورم يروق رواؤه ... حسنا وسوف تمجه في دأثه
ولرب مرعى مونق في دمنة ... وإذا شممت صددت عنه لخبثه
ولرب حسي ترتوي من عذبه ... عفوا وتكدي أو تشوب بنبثه
ومهند ذكر حسام باتر ... خلق الجفير من الحوادث رثه
أزرت به مرآته وإذا انتضي ... أرضاك مشهده ومرأى جثه
هذا وإنَّ المرء ليس بحاصد ... أبدا سوى ما قد أتى من حرثه
ولسوف يجني كل ما هو غارس ... في دهره من كرمه أو رمثه
ويرى مغبة سعيه مذخورة ... لمآبه من رمثه أو عيثه
النفث: المراد به الكلام. والإطراء: المبالغ في المدح والمغث ضده واللجين مصغرا: الفضة واللجين مثل أمير زبد أفواه الإبل وما سقط من الورق عند الخبط. وأطلق اللجين واللجين على محمود الأخلاق ومذمومها كما يقولون: إنَّ فلان لا يفرق بين لجين الكلام ولجينه أي بين جيده ورديئه؟ والنفاذ والطيش أصلها في السهام وذكرهما مع ذكر الغرض في النوائب استعارة وفي الغرض مع ذلك توجيه. والملث: الوعد بلا نية الوفاء. والدث: المطر الضعيف. والمرجاس: حجر يرمى في البئر ليعلم به عمقها وفيه أقوال أخرى. واحمدت الرجل: وجدته محمودا وكذا اذممته: فإنَ قلته بلا همزة كان بمعنى الثناء والمناسب هنا الأول. والدأث بفتح الدال المهملة وسكون الهمزة: الأكل والحسي: بئر غير غارقة بمستنقع فيها الماء وينبع منها واكدى الحافر: بلغ كديه في حفره. والرمث بكسر الراء: شجرة معروفة من أشجار البادية وليس لها من الثمرة ما للكرم وهو ضجر العنب فكني بالكرم والرمث عن السعي الذي يجدى نفعا والذي لا نفع فيه كغارس الرمث المذكور. والمث بفتح الراء: الأصلاح وضده العيث وهو الإفساد.
وقول الآخر:
ليل البراغيث داء لا دواء له ... لا بارك الله في ليل البراغيث
كأنهن بجسمي إذ علقن به ... أيدي الشهود على مال المواريث
وقال أبن شرف في معناه:
لك منزل كملت ستارته ... للهو لكن تحت ذاك حديث
غنى الذباب وظل يزهو حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث
ومثله قول الآخر:
ليل البراغيث والبعوض ... ليل طويل بلا غموض
فذاك ينزو بغير رقص ... وذا يغني بلا عروض
وقول أعرابي بات بمصر فآذاه البرغوث:
تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الغضا ليلي علي يطول
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيل
وقول الكناني ملغزا فيه:
ومعشر يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم
إذا سفكت دما منهم فما سفكت ... يداي من دمه المسفوك غير دمي
وقول أبن سكرة في مليح يعرف بابن برغوث:
بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قلت من هو يعشقوه
حبيبي قد نفى عني رقادي ... فإنَ غمضت أيقضني أبوه
وقال البستي:
لا در در نوازل الأحداث ... نقلت احبتنا إلى الأجداث
فغدت مآنسنا وهن مقابر ... وغدت مدائحنا وهن مراث
وفي هذا القدر من الباب كفاية. والله يقول الحق وهذا يهدي السبيل.












مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید