المنشورات
حسبك من شر سماعه.
يقال: احسبني الشيء يحسبني إحسابا، فهو محسب، أي كفاني. قال الشاعر:
إذا ما رأى في الناس حسنا يفوقها ... وفيهن حسن لو تأملت محسب
وقال الأخر:
وتقفي وليد الحي إنَّ كان جائعا ... وتحسبه إنَّ كان ليس بجائع
وقالت الخنساء:
يكبون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تحسب المائة الوليدا
وهذا الشيء حساب، أي كافٍ. قال تعالى:) عطاء حسابنا (. وحسبك درهم، أي يكفيك. قال تعالى:) حسبك الله (. وقال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء واشتقت العصا ... فحسبك والضحك سيف مهند!
أي يكفيك ويكفي الضحاك.
وقال امرؤ القيس:
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري
وهذا الشعر ينسبه الناس لامرئ القيس، وهو في ديوانه وقبله:
ألا إلاّ تكن ابل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
وجاد لها الربيع بواقصاتٍ ... فآرام وجاد لها الولي
إذا مشت حوالبها أرنت ... كأن القوم صبحهم نعي
فتوسع أهلها أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى وشبع وري
وسبب قوله ذلك أنَّ بني النبهان، لمّا لم يقدروا أنَّ يفتكوا له إبله التي أخذتها جذيلة وأخذت منهم رواحله التي ركبوها في رد الإبل، استحيوا من ذلك فوهبوا له المعزى التي وصفها. وكان الأصمعي ينكر نسبة هذا الشعر لامرئ القيس ويقول: امرؤ القيس لا يقول مثل هذا، واحسبه للحطيئة. وسبب إنكاره قوله: وحسبك من غنى شبع وري، فإن هذا مناف لحال امرئ القيس ولمّا كان يقول في شعره من أنَّ مطلوبه الملك، لا ما دونه، كقوله:
ولو إنّما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
قلت: وأنت خبير بأنه، مع حالته هذه، لا بعد في أنَّ يقول لوجهين: أحدهما أنَّ يقوله استهزاء ببني نبهان، حيث أغير عليه في جوارهم، ثم ركبوا رواحله في رد إبله، فانتزعت منهم زيادة على ما ذهب من الإبل، فوقعوا في هوان عظيم وذله وصغار. ثم لم ينتصروا وجعلوا يعطونه معزى عن الإبل العكر والرواحل النجب، فعظم أمر المعزى ضحكا منهم، وذلك هجاهم حيث يقول:
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل!
كأن دثار حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعل
وأعجبني مشي الخزقة خالدٍ ... كمشي أتان حلئت في المناهل
خالد هذا هو الذي مشى في ردها فانتزعت منه الرواحل.
الثاني إنَّ يريد ظاهره، وهو إنّها كافية، قائمة مقام الإبل الذاهبة شبعا وريا. ولا يعني إنَّ ذلك منيته وبغيته من الدنيا، وإنَّ ذلك كاف من يطلب العيش، ولا يعني نفسه.
وقال نصيب:
وقال رجال: حسبه من طلابها ... فقلت: كذبتم ليس لي دونها حسب!
وقبل هذا البيت قوله:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إنَّ تمثيلنا ملك القلب
وقل: إنَّ ننل بالود منك محبة ... فلا مثل ما لاقيت في حبكم حب
وقل في تجنيها: لك الذنب إنّما ... عتابك من عاتبت فيما له عتب
فمن شاء رام الصرم أوقال ظالما ... لذي وده ذنب وليس له ذنب
خليلي من كعب ألما هيتما ... بزينب لا تفقدكما أبدا كعب
من اليوم زوارها فإن ركبنا ... غداة غدٍ عنها وعن أهلها نكب
وقولا لها: يا أم عثمان خلتي ... أسلم لنا في حبنا أنت أم حرب؟
وقال رجال: حسبه من طلابها " البيت " وكان جرير يقول: " وددت أني سبقت أبن السوداء إلى هذه الأبيات! " يعني نصيبا.
وقال الأعرابي:
وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر!
ولهذا الشعر حطاية ظريفة عن بعض أصحاب الأصمعي قال: ما رأيت كأعرابي وقف علينا وسلم وقال: أيكم الأصمعي؟ فقال له: هاأنا ذا! قال: أنت الذي يزعم هؤلاء انك أعرفهم بالشعر؟ قال: فمن هو اعلم مني؟ قال: أنشدوني من شعر أهل الحضر حتى أريه من شعرنا، فأنشده شعراً قيل في مسلمة بن عبد الملك:
أمسلم أنت البحر إنَّ جاء واردٌ ... وليث إذا ما الحرب طار عقابها
وأنت كسيف الهندواني إنَّ غدت ... حوادث من حرب يعب عبابها
ولا خلقت أكرومة في امرئ له ... ولا غاية إلاّ إليك مآبها
كأنك ديدان عليها موكل ... بها وعلى كفيك يجري حسابها
إليك رحلنا العيس إذ لم نجد لها ... أخاثقةٍ يجرى لديه ثوابها
فتبسم الأعرابي وهز رأسه، فظننا إنّه استحسن الشعر، ثم قال: هذا شعر مهلهل النسج، خطؤه من صوابه: تشبهون الملك بالأسد، والأسد أبخر قبيح المنظر، وبالبحر، والبحر مر صعب، وبالسيف، وربما خان ونبا. هلا أنشدتموني كما قال صبي منا؟ فقال له الأصمعي: ما قال؟ فأنشد:
إذا سألت الورى عن كل مكرمةٍ ... لم يعز أكرمها إلاّ إلى الهول
فتى جواد أذاب المال نائله ... فالنيل يشكوا لديه كثرة النيل
والموت يكره إنَّ يلقى منيته ... في كره عند لف الخيل بالخيل
لو زاحم الشمس أبقى كاسفة ... أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل
أمضى من النجم إنَّ نابته نائبةٌ ... وعند أعدائه أجرى من السيلِ
يقصر المجد عنه في مكارمه ... كما يقصر عن أفعاله قولي
قال اللراوي: فبهتنا والله بما رأينا. فتأنى قليلا ثم قال: ألا تنشدني يا أصمعي شعرا ترتاح إليه النفس؟ فأنشدته قول عدي بن الرقاع:
وناعمةٍ تجلو بعود أراكةٍ ... مؤشرةٍ يسبي المعانق طيبها
كأن بها خمراً بماء غمامةٍ ... إذا ارتشفت بعد المنام غروبها
أراك إلى نجد تحن وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث كان حبيبها
فتبسم الأعرابي وقال: هذا قريب من الأول. ألا أنشدتني كما قلت:
تعلقتها بكراً وعلقت حبها ... وقلبي من كل الورى فارغٌ بكرُ
إذا احتجبت لم يكفك البدر فقدها ... وتكفيك فقد البدر إن حجب البدرُ
وما الصبر عنها إن صبرت وجدته ... جميلاً ولا في مثلها يحسن الصبرُ
وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمرُ
ولو أنَّ جلد الذر لامس جلدها ... لكان للمس الذر في جلها أثرُ
ولو لم يكن للبدر ضداً جمالها ... وتفضله في حسنها لصفا البدرُ
قال: الراوي: فقال لنا الأصمعي: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطراف المدى في رقاق الأكباد! انتهى.
ويقال أيضاً: حسبك بكذا. قال أبو تمام:
نامت همومي عني حين قات لها: ... حسبي أبو دلفٍ حبي به وكفى!
وقال العباس بن الأحنف:
إن كان يرضيكم عذابي وأن ... أموت بالهجران والكربِ
فالسمع والطاعة مني لكم ... حسبي بما ترضون لي حسبي
والشر ضد الخير؛ أنَّ الشر يكفيك منه سماعه وإن لم تعاينه إما على معنى أنَّ الشر من شناعته وقبحه يتبين بسماعه وإن لم تعانيه؛ أو أنه يحصل لك اتهام ما به من مجرد سماعه وإن لم تقدم عليه ولا انتسبت إليه؛ أو يكفي فيما انتسب إليك من الشر سماع الناس له وإن لم يعانوه. وهذا ما ذكر أبو عبيد أنَّ هذا المثل يضرب فيما يحذر من العار والعيب والمقالة السوء وإن كانت باطلا كقول الآخر:
قد فيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟
وإما على معنى الأمر أي: اكتف من الشر بسماعه ولا تعانيه والله أعلم.
والمثل لأم الربيع بن زياد العبسي وكان ابنها الربيع أخذ من قيس بن زهير درعا فعرض قيس لأم الربيع وهي على راحلتها في طريق فأراد أن يقبضها في الدرع فقالت: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يمينا وشمالا وقال الناس ما قالوا؟ إنَّ حسبك من شر سماعه. فذهبت كلمتها مثلا.
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب من شعراء الحماسة:
سائل بنا في قومنا ... وليكف من شر سماعه
قيساً وما جمعوا لنا ... في مجمع باقٍ شناعه
وبعده:
فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه
بعكاظ يعيش الناظر ... ين إذا هم لمحوا شعاعه
فيه قتلنا مالكاً ... قسراً وأسلمه رعاعه
ومجندلاً غادرنه ... بالقاع تنهشه ضباعه
تصف بهذا الكلام حرب الفجار بين قريش بعكاظ. وأرادت بقولها: وليكف من شر سماعه: أنا أوقعنا بهم من الشر ما ظاهر غني عن السؤال عنه والأخبار به.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
2 مايو 2024
تعليقات (0)