المنشورات
الحمار حماري وأنا أركب من وراء!
وقد آن أنَّ نذكر في هذا الباب ما يتيسر من الشعر. قال الشاعر:
أخاك أخاك، إنَّ من لا أخاله ... مساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإنَّ أبن عم المرء فأعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقال الآخر:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا
يريد النعامة، وقد تقدم ذلك فيها.
وقال عروة بن الورد:
وقلت بقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا وإنَّ رزح
تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح
وسيأتي ما يناسب هذا المعنى، إن شاء الله.
ومن يكن مثلي ذا عيال ومقترا ... يغرر ويطرح نفسه كل مطرح
ويبلغ عذرا أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس مثل منجح
والكنيف حظيرة تعمل للماشية تحفظ فيها؛ والرزح جمع رازح وهو الساقط المعيي هزالا، وهو نعت القوم؛ والحمام بكسر الحاء الموت وجعله مبرحا أي شاقا لطوله لأنهم يبقون حتى يموتوا جوعا.
وذلك أنَّ عروة مر بقوم من أهله قد جهدوا على أنفسهم حظيرة، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: أنا جهدنا وخفنا على أنفسنا السباع، فعملنا هذا نبقى فيه حتى نموت. فلامهم على ذلك واستنهضهم لطلب الرزق. فسار بهم حتى نزلوا ماء يقال له ماوان لبنى فزارة. فمر بهم راكب معه ظعينة على بعير ومائة ناقة. فقام إليه عروة فقاتله حتى قتله.
فأخذ ذلك وقسمه على أصحابه.
وقوله: ومبلغ نفس عذرها مثل منجح: مثل سائر عند القوم: ويريد به أنَّ من جد في الطلب، عانى المشقة والتعب، فهو إنَّ ظفر فذلك ما يسعى إليه، وإنَّ لم يظفر فلا ملامة عليه، كما قال امرؤ القيس: نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال أبن هرمة:
يحب المديح أبو ثابتٍ ... ويفرق من صلة المادح
كبكر تشهى لذيذ النكاح ... وتجزع من صولة الناكح
وقال الحماسي عمرو بن الاطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
الإجشام: الإكراه على تحمل المشقة؛ والمشيح والشائح: الجاد في الأمر؛ وجشأت نفس الرجل: تحركت واضطربت من جزع أو حزن؛ وجاشت: ماجت واضطربت، ومنه الجيش، لموجانه بعضه في بعض؛ والمآثر ما يذكر عن الإنسان ويؤثر عنه؛ والعرض الصحيح: الذي لم يتعلق به عيب فيمرضه.
وقال جميل بن معمر:
أريد صلاحها وتريد قتلي ... فشتى بين قتلي والصلاح!
وقبله:
تنادى آل بثنة بالرواح ... وقد تركوا فؤادك غير صاح
فيا لك منظرا ومسير ركبٍ ... شجاني حين أمعن في الفياحي
ويا لك خلة ظفرت بعقلي ... كما ظفر المقامر بالقداح!
وبعده أريد صلاحها " البيت "
لعمر أبيك لا تجدن عهدي ... كعهدك في المودة والسماح
ولو أرسلت تستهدين نفسي ... أتاك بها رسول في سراح
وقال أبو الطيب:
وما ترك الشعر إلاّ إنّه ... تقصر على نفسي وصف الأمير المدائح
قلت: وما أحق أنَّ يتمثل بك بهذا عند ترك الاشتغال بمديح النبي صلى الله عليه وسلم! فإن أكثر الفحول تركوه واشتغلوا بمديح غيره. وما ذلك إلاّ عجزاً: فإن نباهة مكانه صلى الله عليه وسلم، وجلالة جانبه تبهر العقل وتحير الفكر، فلا يستطيع إنَّ يجول فيه، ولو جال لقصر. وقد ذكر أبن الخطيب رحمه الله هذا المعنى في صدر كتاب السحر والشعر له، بعد إنَّ ذكر مقطعات لبعض الأدباء في مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال وكما أنَّ الشعر لم يتعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي له لئلا يرتاب المبطلون، وذلك في حقه الكامل، بخلاف غيره، كذلك يبعد أو يمتنع أنَّ وجد قسم السحر في مدحه، إذ أصله الإغياء والمحاكاة والخيال والتمجين، حتى قال: ووقار جانبه صلى الله عليه وسلم يبهر النفس ويمنع من استرسالها في ذلك. فالمجيد فيه من عول على نصاعة اللفظ، وقصد الحق، وقرب المعنى، وإيثار الجد. انتهى. قلت: ومن أسباب ذلك إنَّ المديح إنّما يحسن لاشتماله على المحاسن وأوصاف كمال للممدوح، ويتفطن لها الشاعر دون غيره، ويبالغ فيها أكثر مما يستحق الممدوح ويظن به.
وقد علم في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كل ما يتخيله الشاعر من المحاسن والكمالات، فالنبي صلى الله عليه وسلم زائد على ذلك وارفع منه إذ لا يبقى فوق كماله صلى الله عليه وسلم إلاّ كمال الألوهية، وليس لأحد أنَّ يثبته له، فلم يبق للشاعر إلاّ إنَّ يبين ما هو عليه أو أنقص، وكلاهما لا طائل فيه، مع أن إتيان قدره صلى الله عليه وسلم نتعذر عادة، إذ لا تصل إليه العقول فليس إلاّ القصور. ولله در القائل:
ما قصر الشعراء فيك تعمدا ... بل دق في أفكارهم معناكا
نعم! يمكن الإتيان بشيء من حلاه صلى الله عليه وسلم وأوصفه على نوع من الغرابة وضرب من المبالغة، بحسب ما يرى الناس من حاله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً:
أيكون الهجان غير هجان؟ ... أيكون الصراح غير صراح؟
جهلوني وإنَّ عمرت قليلاً ... نسبتي لهم رؤوس الرماح
وقال أيضاً:
تخفي العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر يبوح
وقال أيضاً:
فقلت لكل حي يوم سوء ... وإنَّ حرص النفوس على الفلاح
وقال أبو العلاء المعري:
وأمراض المواعد أعلمتني ... بأن وراءها سقما صحيحا
وقال:
أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا
وقال:
وما للمسك في أنَّ فاح حظ ... ولكن حظنا في أنَّ يفوحا
وقال:
وذلك إنَّ شعرك طال شعري: ... فما نلت النسيب ولا المديحا
ومن لم يستطع علام رضوى ... لينزل بعضها نزل السفوحا
وهذا في معنى ما مر لأبي الطيب: وقال الشاعر:
إذا أبطا رسولك فارج يسرا: ... ففي إبطائه أثر النجاح!
وهذا يشبه قول أبي الطيب:
ومن الخير بطئ سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وقال الآخر:
إذا أنت لم تصلح لنفسك لم تجد ... لها أحداً من سائر الناس يصلح
وقال الآخر:
جبينك والعمامة والثنايا ... صباح في صباح في صباحٍ
وقال الآخر:
دع الناس طرا واهجر الناس كلهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح!
وقال الآخر:
صديق بلا عيب قليل وجوده ... وذكر عيوب الأصدقاء قبيح
وقال الآخر:
طلبت بك التكثير قلة ... وقد يخسر الإنسان في طلب الربح
وقال الآخر:
كأنني الجزار في فعله: ... ما قال بسم الله إلاّ ذبح
وقال الآخر:
كن في أمان الله من خاطر: ... مثلك لا يهجى ولا يمدح
وقال الآخر:
ليس عاراً بان يقال مقل: ... إنّما العار أنَّ يقال شحيح
ومثله قول الآخر:
ألم تعلمني يا عمرك الله إنني ... كريم على حين الكرام قليل
وإني لا أخزى إذا قيل مملق ... كريم وأخزى أنَّ يقال بخيل
قول الآخر من شعراء الحماسة:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غني في العيون جليل
وليس الغنى إلاّ غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل
وقال إحسان بن حنظلة:
تلك ابنة العدوي قالت باطلا ... أزرى بقومك قلة الأموال
أنا لعمرك أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال
وقول الآخر:
لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح
وقول الآخر:
بكر العواذل بالسواد يلمنني ... جهلا يقلن: ألا ترى ما صنع؟
فأتيت مالك في السفاه، وإنما ... أمر السفاهة ما أمرنك أجمع
وقتود ناجية وضعت بقفرة ... والطير عاشية العوافي وقع
بمهند ذي حليةٍ جردته ... يبرى الأصم من الكعوب ويقطع
لتنوب نائبة فيعلم إنني ... ممن يغر على الثناء فيخدع
إني مقسم ما ملكت فجاعل ... أجراً لآخره ودنيا تنفع
وقول أبي زياد الأعرابي:
له نار تشب على يفاعٍ ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
وقول الآخر:
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفة أوسع
وقال الآخر:
وتبا لمن بخلت نفسه ... بشيء يؤول إلى المستراح
أي: المرحاض: وقال الآخر:
وشيئان معدومان في الأرض: درهم ... حلال، وخل في الحقيقة ناصح
وقال الآخر:
ويؤلمني جميل لا أكافا ... عليه كأنه عندي قبيح
وقال الآخر:
هجوت زهيرا ثم أني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح
وقال الآخر:
لا يصحب الإنسان في قبره ... غير التقى والعمل الصالح
وقال الآخر:
وما العيش إلاّ في خمول مع الغنى ... وعافية تغدوا بها وتروح
وقال الآخر:
وما كل حين يصدق المرء ظنه ... ولا كل أصحاب التجارة يربح
وقال معن بن أوس:
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح
وقال الآخر:
ولا تفش سري إلاّ إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا!
فإني رأيت غواة الرجال لا يتركون أديما صحيحا
وقيل: وكان أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه يتمثل بهذين البيتين كثيرا، وقيل انهما له. والأديم: الجلد، استعير هنا للعرض، وجعل لام الوشاة سهاما يرما بها الأعراض حتى تهتكها. ومثله قول أبن الخياط:
فلا تعدل إلى الواشين سمعا ... فإنَّ كلام أكثرهم كلام
وإنَّ الود عندهم نفاق ... إذا طاوعتهم والحمد ذام
وأقوال إذا سمعت سهام ... تقصر عن موقعها السهام
فلما نصحوا لمجدك بل مراداً ... لمّا قد ساءني قعودا وقاموا
فليتك تسمع القولين حتى ... تبين في من الحق الخصام!
وقالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية ترثي أخاها وقيل ليلى بنت يزيد بن الصعق ترثي ابنها قيس بن زياد:
لقد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح
قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح
وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد مات خير فوارس ورماح
وإذا دعت قمرية شجبنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحي
وتمثلت بها فاطمة أم السبطين رضي الله عنها يوم وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم. ومعنى: دعوت صباحي أي قلت: وأسوء صباحاه! لعدم ناصري فيه. وفي معنى الأول قول أبي الوفاء يرثي غازي:
أيا تاركي ألقى العدو مسلما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه
وقال سعد بن قيس:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
فالهم بيضات الخدور ... هناك لا النعم المراح
والضمير في كشفت للحرب في قوله:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
وكشف الساق كناية عن اشتدادها، أخذ من كشف الرجل عن ساقه وتشميره إذا جد في الأمر، كما قيل:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... اشمر حتى ينصف الساق مئزري
والصارح: الخالص أصله اللبن الذي ذهبت رغوته، كما مر؛ فالهم بيضات الخدور الخ. . فيه وجهان: أحدهما إنّه يقول: أما حينئذ لا نبالي بأموالنا أن تذهب، وإنّما همنا الدفع عن حريمنا؛ والآخر: إنَّ يريد: أنا ظهرنا على العدو ولم نلتفت إلى أموالهم وأخذها، وإنما همنا منهم القتل والسباء وهو أفخر.
وقال أحد بني يشكر:
إلاّ أبلغ بني ذهل رسولا ... وخص إلى سراة بني البطاح
بأنا قد فتلنا بالمعلى ... عتيبة منكم وأبا الجلاح
فإن ترضوا فأنا قد رضينا ... وإنَّ تأبوا فأطراف الرماح
مقومة وبيض مرهفات ... تبين جماجما وبنان راح
وقال الحيض بيض:
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا على الأسرى فنعفو ونصفح
ويحكى عن بعضهم قال: رأيت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة وتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يؤثم على ولدك الحسين مآثم؟ فقال لي: أسمعت أبيات الصيفي في هذا، وهو الحيص بيض؟ فقلت: لا. قال: اسمعنا منه! قال: فانتبهت، فلما أصبحت بادرت إلى دار الحيص بيص فأخبرته بالقصة فبكى وحلف بالله ما خرجت من فيه إلى أحد وما نظمها إلاّ في ليلته، فأنشدني: ملكنا فكان العفو منا البيتين.
وقال الحماسي أحد بني الحارث بن كعب:
لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح
وقال مالك بن أسماء، من شعراء الحماسة أيضاً:
وحسبك تهمة ببرئ قومهم ... يضم على أخي سقم جناحا
وقبله:
هجوت الأدعياء فنا صبتني ... معاشر خلتها عربا صحاحا
فقلت لهم وقد نجوت طويلا ... إلى وما أجبت لهم نباحا
أمنهم أنتم فأكف عنكم ... وأدفع عنكم الشتم الصراحا؟
وحسبك " البيت "
والمناصبة: المعاداة. ويقول: إنَّ عاديتموني بسببهم وذهبتم عنهم، فأنتم منهم ولا أهجوكم للؤمكم، وكفى بكم ريبة إنَّ تضموا الجناح على المريبين.
وقال الآخر:
وإني لأغلي لحمها وهي حية ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح
بذا فآندبيني فإنني ... فتى تعتريني هزة حين امدح
وتقدم هذا الشعر وما كان بمعناه.
وقال الآخر:
ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومة للمرء ذي الطعم فاضح
وقبله:
دعاني أبو نصر وأهدى نصيحة ... إلي ومما أنَّ تعز النصائح
لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطي حتفه وهو نازح
أو البرجمي حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح
ورأي أبي سعد وإنَّ كان حازما ... بصير وإنَّ ضاقت عليه المسارح
أعان به ملعون نبهان سيفه ... على قومه والقول عاق وجارح
ونصر الفتى في الحرب " البيت "
وقوله: لأجزر لحمي أي: أصير نفسي جزرة، والجزرة البدنة تنحر. قال: عنترة:
إنَّ يعفرا مهري فإنَّ أباهما ... جزر لخامعة ونسر قشعم
والقاسطي الذي ذكره هو أحد القارضين الهالكين، وسيأتي فيهما المثل؛ والبرجمي هو وافد البراجم المتقدم؛ وقوله: للمرء ذي العقل والمعرفة. وقال الحماسي أشجع السلمي:
مضى أبن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلاّ له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
فاصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح
فما أنا من رزء، وإنَّ جل، جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلاّ عليك النوائح!
وقال أبن المعتز:
كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا يخلق المرء العيون الطوامح
ومن هذا قولهم: طول المجالسة يخلق: وقد قال أزدشير لأبنه: لا تمكن الناس من نفسك: فإن أجرا الناس على الأسود أكثرهم لها معاينة! وقال أبو بكر بن النطاحي في المدح:
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنى يوجه وقاح
هكذا هكذا، المعالي: ... طرق الجد غير طرق المازح!
والبيت الثاني ذهب مثلا سائرا. وقال مجد الدين الاربلي:
طرفي وقلبي: ذا يسيل دما، وذا ... بين الورى أنت العليم بقرحه
وهما بحبك شاهدان وإنّما ... تعديل كل منهما في جرحه
ونحو هذا من التوجيه قول الآخر:
زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... يوما زيارة قبره بالتارك
فوجدت مولاي الحبيب يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك
وقول الآخر:
وعاطيته علم البديع وخده ... يعلمني تلوينه علم جابر
وصفحت من شوقي مدونة الرضى ... لثغر فأفتاني بنص الجواهر
وقول الآخر:
لا غزو إنَّ يصلي الفؤاد ببعدكم ... نارا تؤججها يد التذكار:
قلبي إذا غبتم يصور شخصكم ... فيه وكل مصور في النار!
وقال الآخر في هذا المعنى:
إلاّ إنَّ حالي في هواك خفيفة ... ولكن لعيني بالصبابة تبريح
عجبت لدمع لا يزال مرويا ... فيقبل في آثاره وهو مطروح
وأعجب من ذا أن خدي شاهد ... يصادق في أقواله وهو مجروح
وقال أيضاً:
ومحكم اللحطات في مهج الورى ... تحكيم نار هواه بين جوانحي
جريح الفؤاد فطار من ولع به ... فكيف الخلاص لطائر من جارح؟
ومثله أيضا قوله:
أحادثه بالفكر فهو منادمي ... على الدهر لا أبغي عليه بديلا
تملك قلبي فهو رهن اعتقاله ... فمن شاء يبصر مالكا وعقيلا
وتقدم لنا هذا المعنى في حرف الثاء، مستوفى، وسنعيد منه كثيرا.
وقال القاضي أبو الفضل عايض رحمه الله:
انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح
كتبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
ومثله قوا الآخر:
فتح الشقائق جرحها ومغنمها ... وشيء الربيع، وقلاها من الثمر
لأجل هذا إذا هبت طلائعه ... تدرع النهر واهتزت قنا الشجر
ونحو هذا من حسن التعليل في هذا المعنى قولي:
إنَّ بين الغمام والزهر الغض ... لرحما قديمة وإخاء
بان إلف عن إلفه فتوارى ... في الثرى ذا وذاك حل السماء
فإذا ما لغمام زارت جانبا ... أذنت فيه بالحبيب اللقاء
ذكرت عهده القديم فحنت ... عند لقياه فاستهلت بكاء
فترى الزهر بارزا من خباياه ... يحيى الوفود والأصدقاء
بادي البشر والبشاشة جذلا ... ن لبوسا من كل لون رداء
ثملا من شموس شمس الضحى ... وهو على بسط سندس خضراء
راقصات والصبا تهنيه والو ... رق غواني القيان تشدو غناء
وما رأيت أحدا ولا أظنه سيبقي إلى هذا المعنى، ولا تصريحا ولا تلويحا.
وقال الحسن بن هانئ:
مازلت أشرب روح الزق في لطفٍ ... وأستميح دما من غير مجروح
حتى أغديت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح
وقال أيضاً في هذا المعنى:
أذكى السراج وساقي القوم يمزجها ... فلاح في البيت كالمصباح مصباح
كدنا على علمنا للشك نسأله: ... أراحنا نارنا أم نارنا الراح؟
وسيأتي هذا المعنى مستوف في بعد. وقال أبن الخياط في صفحة الحساب:
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت من برقها كي تهدي مصباحا
وكان صوت الرعد خلف سحابها ... حادٍ إذا ونت الركائب صاحا
وتقدم هذا المعنى في حرف الهمزة. وقال عبد الله بن المعتز:
كأن سماءنا لمّا تجلت ... خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل ثراه ... تفتح بينه نور الأقاح
وقال أبن الزقاق:
فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... تعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعدي وشاح
وقال إدريس بن اليماني:
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
حفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
وقال الآخر في وصف الروض:
ورياض من الشقائق أضحت ... تتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح
قلت: ما ذنبها؟ فقال مجيبا: ... سرقت حمرة الخدود الملاح!
وقال الآخر في زورق:
لو أبصرت عيناك زورق فتيةٍ ... بيدي لهم لمح السرور مراحة
وقد استداروا تحت ظل شراعه ... كل يمد بكأس راح راحه
لحسبته خوف العواصف طائرا ... مد الحنان على بنيه جناحه
وقال أبن الرومي:
قالت: علا الناس إلاّ أنت قلت لها: ... كذاك يسفل في الميزان مارجحا
وقال أبو إسحاق بن الحاج:
يا مالكي بصبيح وجهٍ حسنه ... أربى على فلق الصباح الأوضح
ما شك قلبي فيك أنك مالك ... لمّا عرفت وسامة بالإصباحِ
وقال سيف الدولة:
لا أواخذك بالجفاء فإني ... واثقٌ منك بالوفاء الصريحِ
فجميل العدو غير جميلٍ ... وقبيح الصديق غير قبيحي!
وقال مهيار:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا
وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا
وقال شرف الدين الحموي شيخ الشيوخ:
حديثي في المحبة ليس يبرح: ... فدعني من حديث اللوم واسرح
فما لك مطمع ببراح قلبي ... عن الحب الذي أعيا وبرح
فكم من لائم ألحى إلى أن ... تأمل من هويت فما تنحنح
فيا لله ما أشهى وأبهى ... ويا لله ما أحلى وأملح!
له طرفٌ يقول: الحرب أحرى ... ولي قلبٌ يقول: الصلح أصلح
سألت سواره المثري فنادى ... فقير وشاحه: الله يفتح
وماس من القوام بغصن بان ... إذا أنشدت أغزالي ترنح
وحياني بألحاظٍ مراضٍ ... صحيحاتٍ فأمرضني وصحح
أعاتبه فلا يصغي لعتبي ... ولا أسلو فأتركه وأربح
وقال عبد المحسن الصوري:
وأخٍ مسه نزولي بقرحٍ ... مثل ما مسني من الجوع قرحُ
بت ضيفاً له كما حكم الد ... هر وفي حكمه على الحر قبحُ
فابتداني يقول وهو من السكر ... ة بالهم طافحٌ ليس يصحو:
لم تغربت؟ قلت: قال رسول ... الله والقول منه نصح ونجح:
سافروا تغنموا. فقال: وقد قال ... تمام الحديث: صوموا تصحوا!
وقال أبن الوردي:
قد عجبنا لأميرٍ ... ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح
وقال شهاب الدين الخفاجي وهو من باب التورية اللطيفة:
وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجحُ
قالوا: وصف جبينه ... فقالت: ذاك واضح!
وقال أيضاً وفيه نحو ما في الذي قبله من التورية:
لله أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح!
ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت منه بحبيب وراح
وقال أبو محمد الحريري:
لزمان السفار وجبت القفار ... وعفت النفار لأجنبي الفرح
وخصت السيول ورضت الخيول ... لجر ذيول الصبا والمرح
ومطت الوقار وبعت العقار ... لحسو العقار ورشف القدح
ولولا الطماح إلى شرب راح ... لمّا كان باح فميبالملح
ولا كان ساق دهئي الرفاق ... لأرض العراق بحملي السبح
فلا تغضبن ولا تصخبن ... ولا تعتبن فعذري وضح
ولا تعجبن لشيخ أبن ... بمغنى أغن ودن طفح:
فإنَّ المدام تقوي العظام ... وتشفي السقام وتنفي الترح
وأصفى السرور إذا ما الوقور ... أماط ستور الحيا وأطرح
وأحلى الغرام إذا المستهام ... أزال اكتتام الهوى وافتضح
فبح بهواك وبرد حشاك ... فزند أساك به قد قدح
وداوي الكلوم وسل الهموم ... ببنت الكروم التي تقترح
وخص العبوق بساق ... بلاء المشوق إذا ما طمح
وشاد يشيد بصوت تميد ... جبال الحديد له إن صدح
وعاص النصح الذي لا يبيح ... وصال المليح إذا ما سمح
وجل في المحال ولو بالمحال ... وجع ما يقال وخذ ما صلح
وفارق أباك إذا ما أباك ... ومد الشباك وصد من سنح
وصاف الخليل وناف البخيل ... وأول الجميل ووال المنح
ولذلك بالمتاب أمام الذهاب ... فمن دق باب كريم فتح
وقال أيضاً:
نهاني الشيب عما فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الراح والراحِ؟
وهل يجوز اصطباحٌ من معتقةٍ ... وقد أنار مشيب الرأس إصباحي
أنَّ ليت لا خامرتني الخمر ما علقت ... روحي بجسمي وألفاظي بإفصاحي
ولا اكتست لي بكاسات السلاف يدٌ ... ولا أجلت قداحي بين أقداح
ولا صرفت إلى صرفٍ مشعشعة ... همي ولا رحت مرتاحا إلى راح
ولا نظمت على مشمولة أبداً ... شملي ولا اخترت ندماناً سوى الصاحي
محا المشيب مراحي حين خط على ... رأسي: فأبغض به من كتاب ماح!
ولاح يلحى على جري العنان إلى ... ملهى: فسحقاً له من لائح لاح!
ولو لهوت وفودي شائب لخفى ... بين المصابيح من غسان مصباحي
قومٌ سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيفٌ له التوقير يا صاح!
وقال أيضاً:
أعدد لحسادك حدّثني السلاح ... وأورد الأمل ورد السماح
وصارم اللهو ووصل المهى ... وأعمل الكوم وسمر الرماح
واسع لإدراك محل سما ... عماده لا لادراع المراح
والله ما السؤدد حسنو الطلا ... ولا مراد الحمد رؤد رداح
واها لحر صده واسع ... وهمه ما سر أهل الصلاح
مورده حلو لسؤاله ... وماله ما سألوه مطاح
ما اسمع للآمل ؤداً ولا ما طله والمطل لؤم صراح
ولا أطاع اللهو لمّا دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح
سوده إصلاحه سرة ... وردعه أهواءه والطماح
وحصل المدح له علمه ... ما مهر الحور مهور الملاح
وقال عوف بن محلم:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك ميادٌ ففيم تنوحُ؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيحُ
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد جريحُ
وزعموا إنّه خرج مع عبد الله بن طاهر في بعض غزواته فسمع عبد الله يوما وهما يتسايران صوت حمامة فأنشد أبيات عوف ثم التفت إلى عوف وقال له: هل حضرك شيء في هذا المعنى وهذه القافية؟ فقال عوف:
أفي كل عامٍ غربةٌ ونزوح؟ ... أما للنوى من ونيةٍ فتروحُ؟
لقد ظلم البين القذوف ركائبي: ... فهل أرين البين وهو طليحُ؟
وأرقني بالري نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشوق الغريب ينوحُ
على أنها ناحت ولم تدر عبرةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوحُ
وناحت جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصا التسيار وهي طريحُ
فإنَّ الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغنى بالقترين نزوحُ
فرق له عبد الله وصرفه إلى أهله بعطاء جزيل وقال: يصلك عطاؤك كل سنة لموضعك.
وللشعراء قديما وحديثا الإكثار من ذكر الحمام والفواخت والورشان في أشعارهم واستحسان أصواتها. فمن مستحسن ما للأولين في ذلك قول الشاعر:
سيغنيك عن مزمار آل مخارق ... وبربطهم تغريد تلك الحمائمِ
بأيكة ناظر تجاوبن بالضحى ... على شاهقات آفلاتٍ نواعمِ
قول الآخر:
أحن إلى حوائط ذات عرقٍ ... لتغريد الفواخت والحمامِ
ألم بها بكل فتى كريمٍ ... من الفتيان مخلوع الزمامِ
إذا غنت على الأغصان ورقٌ ... أجبناها بإعمال المدامِ
وقول أبي صخر:
ولمّا دعت غورية الأيك سجعت ... فسجع دموعي يستهل ويستشري
يذكرني شجي دعاء حمامةٍ ... ويبعث لوعات الصبابة في صدري
بكت حزناً رزء الهديل وشفني ... فراق حبيب ضاق عن فقده صبري
وقول الآخر:
أيها البلبل المغرد في النخ ... ليس غريبا من أهله حيرانا
أفراقا تشكوه أم ظلت تعو ... فوق أفنان نخلك الورشانا؟
هاج لي شجوك المغرد شجواً ... رب صوتٍ يهيج الأحزانا
وقول حميد بن ثور:
وما هاج هذا الصوت إلاّ حمامةٌ ... دعت ساق حر ترحةً وترنما
محلاة طوقٍ لم يكن بتميمةٍ ... ولا ضرب صواغٍ بكفيه درهما
تغنت على غصنٍ عشاءً فلم تدع ... لنائحةٍ في نوحها متلوما
إذا حركته الريح أو مال ميلةً ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما!
وقول الآخر:
ومن بستان إبراهيم حنت ... حمائم بينها فننٌ رطيبُ
وقول عدي بن الرقاع:
ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسمِ
إلى أن دعوت ورقاء في غصن أيكةٍ ... تردد مبكاها بحسن الترنمِ
فلو قيل مبكاها بكيت صبابةً ... بسعي شفيت النفس قبل التندمِ
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدمِ
وقال المجنون:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الاباطحِ
تجافيت عني حين لا لي حيلةٌ ... وخلفت ما خلفت بين الجوانحِ
وزعموا أنَّ رجلا دخل بني عامر يسأل عن المجنون فقيل له إنّه في هذه لبصحراء قد استوحش وإنّه إذا رآك نفر منك؛ ولكن إذا رأيته فاجلس كأنك لا تقصده فانه يجلس إليك. فإذا جلس إليك فإن كان عندك شيء من شعرا بن ذريح فاذكره فانه يصغي إليك. قال: ففعلت ذلك. فلما جلس إلي قالت: ما أشعر قيس بن ذريح حيث يقول:
وإني لمفنٍ دمع عيني بالبكا ... حذاراً لمّا قد كان أو هو كائنُ
وقالوا: غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراق حبيبٍ بان أو هو بائنُ
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفي إلاّ الله تعالى ما حان حائنُ
قال: فبكى طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
أبى القلب إلاّ حبها عامريةً ... لها كنيةً عمرو وليس لها عمرُ
تكاد يدي تندى إذا لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضرُ
عجبت لسعي الهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الهرُ
ثم أوغل في الصحراء وتركني فانصرفت. فلما كان الغد رجعت فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:
يبيت ويضحى كل يومٍ وليلةٍ ... على منهج تبكي عليه القبائلُ
قتيلٌ للبنى صدع الحب قلبه ... وفي الحب شغلٌ للمحبين شاغلُ
فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... معرقةً تضحى لديك وتخصرُ
وأخيلتها من مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ
إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت ... علائقها مما تخاف وتحذرُ
ثم قام هاربا وتركني. فانصرفت ثم عدت في الغد فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:
هبوني امرءاً إن تحسنوا فهو شكرٌ ... لذاك وإن لم تحسنوا فهو صافحُ
فأن يك قومٌ قد أساؤوا بهجرنا ... فإنَّ الذي بيني وبينك صالحُ
فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أما والله أشعر منه حيث أقول: وأدنيني حتى إذا ما سبيتني " البيتين ". ثم فر عني وانصرف. وعدت من الغد فلم أجده فأخبرت قومه فانطلقوا يطلبونه فوجدوه بعد يومين ميتا في شعراء بين حجرين.
قلت: وفي البيتين المذكورين قال جرير لمّا أنشده إياها بعض أصحابه وهما متوجهان إلى الشام: لو كان النخير يصلح لنخرت حتى يسمعني هشام على سريره من هاهنا! وقال أبن الدمينة:
إلاّ يا حمى وادي المياه قتلتني ... أباحك لي قبل الممات مبيحي
ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروحِ
أبى الناس ريب الناس لا يشترونها ... ومن ذا الذي يشتري دوى بصحيحِ؟
والدوى: المريض الشديد المرض والمرض الشديد أيضاً والأحمق.
وينشد هذا الشعلا أيضاً على إسقاط البيت الأول وزيادة آخر وهو:
أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب جريحِ
ويحكى عن إبراهيم الموصلي المغني المشهور أنه قال: سألت الرشيد أن يهب لي يوما أخلو فيه بنفسي وكان أمره أن لا يتغيب عنه يوما أصلا قال: فقال لي إني أستثقل يوم السبت فآله فيه بما شئت! قال: فأعددت يوما شرابا وأطعمة منتخبة وأصبحت عازما على أن لا آذن لأحد. فأمرت البواب بإغلاق الأبواب وجلست وحولي جواري والخدم يترددون بين يدي فإذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال حسن الثياب بيده عكازة مقمعة بفضة وقد سطع منه ريح المسك حتى ملأ البيت. قال: فامتلأت غيظا على البوابو عزمت على غقوبته. فسلم علي الشيخ بأحسن السلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس. فجلس فأخذ في أحاديث العرب وذكر أيامها وأشعارها حتى أذهب ما بقلبي. وقلت: لعل البواب عرف أدبه فأراد مسرتي به فقلت له: هل لك في الطعام؟ فأبى. فقلت: هل لك في الشراب؟ فقال: ما أكرهه. فشربت وسقيته فقال: يا أبا إسحاق وهل لك أن تغني لنا من صنعك؟ فقد نبغت فيها عند الخاص والعام وأحسن فيها ما استطعت حتى نكافئك بمثلها! فأخذت العود وغنيته أصواتا حسانا في كلها يقول: أحسنت يا سيدي! ويطرب ويستزيدني. ثم وضعت العود فقال: أتأذن لعبدك في الغناء؟ فاستصعبت لكني أذنت له. فلما أخذ العود وجسه خلته والله ينطق بلسان عربي. ثم اندفع يغني:
ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني
إلى آخر الأبيات الثلاثة المتقدمه. فو الله لقد ظننت أنَّ الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يغني معه حتى خلت عظامي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام لمّا خالط قلبي. ثم غنى:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودة ... فأني إلى أصواتكن حزينُ
فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبينُ
دعون بترديد الهدير كأنما ... شربن الحميا أو بهن جنونُ
فلم تر عيني مثلهن حمائما ... بكين ولم تدمع لهن عيونُ
فكاد والله عقلي يذهب طربا وارتياحا لمّا سمعت. ثم غنى:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد. ... فقد زادني مسراك وجدا على وجدِ
لقد زعموا أنَّ المحب إذا دنا ... يمل وأنَّ النأي يشفي من المجدِ
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أنَّ قرب الدار خيرٌ من البعدِ
على أنَّ قرب الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان من تهواه ليس بذي ودِ
ثم قال: يا إبراهيم هذا الشعر الماخوري فانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك! فقلت: أعده علي! فقال: لست تحتاج إلى إعادته. فغاب عن بصري فارتعت وقمت إلى السيف فجردته وعدوت نحو الباب فوجدته مغلقا. فسألت البواب عن الشيخ فقال: والله ما دخل علي اليوم أحد! فرجعت متحيرا فإذا هو هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك أبا إسحاق! فقال هو إبليس اخترت مندمتك اليوم فلا ترع! فال إبراهيم: فركبت من فوري إلى الرشيد وقلت: لا أطرفه بطرفة أحسن من هذه! فلما دخلت حدثته الحديث فقال: ويحك غن لي ما غناك! فأخذت العود وغنيته إياها كأنها من محفوظاتي. فطرب الرشيد وجلس للشرب ولم يكن عزم عليه وأمر لي بصلة وقال: الشيخ كان أعلم حيث قال إنك أخذتها. فليته متعنا بنفسه يوما كما أمتعك! انتهى. قوله الماخوري: هو نسبة إلى الماخور وهو بيت الريبة معرب. وقيل إنّه عربي من مخرت السفينة الماء لتردد الناس إليه. وقال أبن عبد المنان:
صبحته عند المساء فقال لي: ... ماذا الصباح وظن ذاك مزاحا
فأجبته: إشراق وجهك غرني ... حتى توهمت المساء صباحا
وسبب قوله هذا الشعر إنّه دخل وهو ثمل على السلطان أحمد المريني عشية فصبحه. فنظر السلطان إليه نظر منكر، وقال له: أي وقت هذا؟ وأي معنى للصباح فيه؟ فأفاق من سكره وانشد ما مر ارتجالا، وهذه بديهة لا بأس بها.
ومثله ما يحكى إنّه وقع ليحيى بن أكثم، وكان الأمين بن الرشيد شرب يوما مع عبد الله بن ظاهر، ومعهما يحيى. فتغامزا عليه، وأمر الساقي فأكثر له حتى أسكره. وكان بين أيديهم ردم من رياحين. فأمر يحيى فدفن فيه، وأمر قينة أنَّ تغني عند رأسه بيتين علمهما. فغنت:
ناديته وهو ميت لا حراك به ... مكفن في ثياب من رياحين
فقلت: قم؟ قال: رجلي لا تطاوعني ... وقلت: خذ! قال: كفي لا تواتيني
فأنتبه يحيى لصوت العود وصوت الجارية، فأخذ العود منها وغنى:
يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما رأيت سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضا قد وهى بدني ... ولا أجيب لداع حين يدعوني!
وقال أبو الفتح البستي:
أفد طبعك المكدود بالجد راحة ... يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بقدر الذي يعطى الطعام من الملح
وقال آخر في معناه:
ممازحة الصديق تزيد ودا ... إذا كانت تضاف إلى الملاحه
فمازح من تحب وتصطفيه ... فمزحك مع صديق في راحه
وقال الآخر في المدح:
إذا نزل الضيف ليلا بهم ... رأى أوجها لاح منها الصباح
كرام الوجوه لمن أمهم ... وعند وجوه الكرام السماح
وهذا من العكس، وهو عند أهل البديع قسمان: تعاكس الكلم وتعاكس الحروف.
فمن الأول في النثر قولهم: عادات السادات سادات العادات: وقولهم عقول الملوك ملوك العقول؛ وكلام الملوك ملوك الكلام؛ وفول بعضهم، وقد قيل له لا خير في السرف، لا سرف في الخير، ونحو هذا. وفي الشعر ما مر وقول صاحب الحلية:
خير الليالي ليالي الخير في إضمٍ ... والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم
وقول أبي الطيب:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
وقول أبن جابر:
عطفت قدها النضير فقالت: ... هل رأيتم لحسن هذا نظيرا؟
بذلت للمحب يوم وصالٍ ... فرأينا وصال يوم كثيرا
ونحوه وهو كثير.
ومن التالي في النثر كقوله تعالى:) كل في فلك (وقوله تعالى:) وربك فكبر (وقول العماد الاصبهاني للقاضي الفاضل: سر، فلا كبا بك الفرس! وقول بعضهم:
سرو حماة بربها محروس؛ وقولك أرض خضراء ورمح أحمر، ونحو ذلك وهو كثير.
ومن الشعر قول الشاعر:
مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم؟
ومن النوع الأول قولي في أبيات:
نتائج أبناء كرام غطارفٍ ... كرام بنين ماجدين كبار
وقول الآخر:
إذا المرء لم يمدح بحسن فعاله ... فمادحه يهذي وإنَّ كان يفصح
وقول الآخر في معناه:
وما شرف أنَّ يمدح المرء نفسه ... ولكن أعمالاً تذم وتمدح
وقول الآخر يروي لأبن الفارض، رضي الله عنه:
خليلي إنَّ زرتما منزلي ... ولم ترياه فسيحا فسيحا،
وإنَّ رمتا منطقي من فمي ... ولم ترياه فصيحا فصيحا،
وقول أبي بكر بن عمار في الاستعطاف:
سجاياك إنَّ عافيت واسمح ... وعذرك إنَّ عاقبت أجلى وأوضح
وإنَّ كان بين الخطيتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
وقال أبو عيسى بن لبون في النسيب:
سقى أرضا نووها كل مزن ... وسايرهم سرور وارتياح
فما ألوى بهم ملل ولكن ... صروف الدهر والقدر المتاح
سأبكي بعدهم حزنا عليهم ... بدمع في أعنته جماح
وقال أيضاً:
يا رب ليل شربنا فيه صافية ... حمراء في لونها تنفي التباريحا
ترى الفراش على الأكواس ساقطة ... كأنها أبصرت منها مصابيحا
وقال أبو محمّد بن عبدون:
سقاها الحيا من مغان فساح ... فكم لي بها من معان فصاح؟
وحلى أكاليل تلك الربى ... ووشى معاطف تلك البطاح
فما أنس لا أنس عهدي بها ... وجري فيها ذيول المراح
ونومي على حبرات الرياض ... يجاذب بردي مر الرياح
ولم أعط أمرا النهى طاعة ... ولم أصغ سمعا إلى لحي لاح
وليل كراجعة طرف المريب ... لم أدرله شفقا من صباح
وقلت أنا:
أم والمهيمن إنني من بعدكم ... لكطائر قد قُدَّ منه جناح
أوديتم بمحبكم من بعدكم ... أو ليس على المضر جناح؟
قد كان فيهم أعصرا بوصالهم ... قد طبن روح للنفوس وراح
فكأنني صبرا سقيت فكيف لي ... صبر وقد زموا المطي وراحوا؟
وقلت أيضاً:
نقل النسيم عن الأراك محدثا ... عن ثغر سلمى الأشنب الوضاح
وحديثه المروي إنَّ رضابه ... عسل ومسك شوبا بالراح
صدقا أحاديث الصحيح قد اعتلت ... عن ريبة تعزى لها من لاح
وقال بعض السادات الصوفية رضي الله عنهم:
قد كنت أحسب إنَّ وصلك يشترى ... بنفائس الأموال والأرواح
حتى رأيتك تجتبي وتخص من ... تختاره بنفائس الأرباح
فعلمت انك لا تزال بحيلة ... ولويت رأسي تحت طي جناح
وجعلت في عشق الغرام إقامتي ... أبدا وفيه تحويلي ورواحي
وقال الآخر:
أبداً نحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى كمال جمالكم ترتاح
وارحمة للعاشقين تحملوا ... ألم المحبة والهوى فضاح
بالسير إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
وقال الآخر:
راحوا فبانت راحتي ... صفرا وأضحى حبهم لي راحا
فتحوا على القلب الغموم وأغلقوا ... باب السرور وضيعوا المفتاحا
وقال بشار:
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ... وما لعمود الصباح لا يتوضح؟
أضل النهار المستنير طريقه؟ ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح؟
وطال علي الليل حتى كأنه ... بليلين موصول فما يتزحزح
واعلم إنَّ الشعراء في الليل قديما وحديثا مقصدين مختلفين لباعثين متباينين: فتارة يستطيلونه ويستبطئون الإصباح وذلك لأجل الاختناق بتباريح الأشواق عند احتساء كأس الفراق المر المذاق وتارة يستقصرونه ويودون أن لو دام وذلك عند اجتناء ثمرات الوصال والاشتغال بلذات الإقبال. فمن الأول قول مهلهل:
أليلتنا بذي حسم أنبري ... إذا أنت أنقضيت فلا تحوري
ولم يحضرني لمن قبله شيء في هذا الباب. وقول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطا بجوزه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
إلاّ أيّها الليل الطويل إلاّ أنجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
وقوله أيضاً:
أعني على التهمام والذكرات ... يبتن على ذي الهم معتكرات
بليل التمام أو وصلن بمثله ... مقياسة أيامها نكرات
وهو أوّل من أبدع في هذا الباب فيما علمنا. وقول النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طورا وطورا تراجع
وقوله أيضاً:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنص ... وليس الذي يرعى النجوم بآءب
وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف في الحزن من كل جانب
وقوله أيضاً:
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا ... وهمين هما مستكنا وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يربها ... وورد هموم لن يجدن مصادرا
وقوله أيضاً:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائدات فرشنني ... هراسا به يعلى فراشي ويقشب
وقول جندح:
في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصل
لا فارق الصبح كفي إن ظفرت به ... وإن بدت غرة منه وتحجيل
لساهر طال في صول تململه ... كأنه حية بالسوط مفتول
حتى أرى الصبح قد لاحت مخائله ... والليل قد مزقت عنه السراويل
ليل تحير ما ينطح في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكول
نجومه ركد ليست بزائلة ... كأنما هن في الجو القناديل
ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول
الله يطوي بساط الأرض بينهما ... حتى يرى الربع منه وهو مأهول
وقول الحصري:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟
وقول الآخر:
إلاّ هل على الليل الطويل معين ... إذا نزحت دار وحن حزين؟
أكابد هذا الليل حتى كأنما ... على نجمه إلاّ يغور يمين
وتالله ما فارقتكم قاليا لكم ... ولكن ما يقضي فسوف يكون
وقول الآخر:
ما لنجوم الليل لا تغرب ... كأنها من خلفها تجذب؟
روادك ما غار في غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب
وقول العباس بن الأحنف:
أيّها الراقدون حولي أعينوني ... على الليل حسبه وآئتجارا
حدثوني عن النهار حديثا ... أوصفوه فقد نسيت النهارا
وقال السويد بن أبي كاهل:
وإذا ما قلت ليل قد مضى ... عطف الأول منه فرجع
يسحب الليل نجوما ظلعا ... فتواليها بطيآت التبع
ويزجيها على إبطائها ... مغرب اللون إذا الليل انقشع
وقول أبن الرومي:
رب ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم الشيب ... ليست لكن تزيد
وقول سعيد بن حميد:
يا ليل بل يا أبد ... أنام عندك غد؟
يا ليل لو تلقى الذي ... ألقى بها أو تجد
قصر من طولك أو ... ضعف منك الجلد
أشكو إلى ظالمة ... تشكو الذي لا تجد
وقف عندها ناظري ... وقف عنها السهد
وقول الآخر:
يخيل إلي إنَّ الشهب في الدجى ... وشدت بأهداب إليهن أجفان
وقول الآخر:
رب ليل أمد من نفس العاشق ... طولا قطعته بآنتحاب
وحديث ألذ ممن نظر الوامق ... بدلته بسوء العتاب
وقول أبن شهيد:
وبتنا نراعي الليل لم يطو برده ... ولم يجن شيب الصبح في فزعه وخطا
تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا
مطلا على الآفاق تاجه ... وقد علق الجوزاء من أذنه قرطا
وقال بعضهم: كان علي بن الجهم يستنشدني شعر خالد الكاتب فأنشده فيقول: ما صنع شيئاً حتى أنشدته يوما له:
رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
ولم تدر بعد ذهاب الرقاد ... ما صنع الدمع من ناظري
فقال: قاتله الله لقد أدمن الرمي حتى أصاب الغرة.
ومن الاعتبار الثاني قول الأعرابي:
وليل لم يقصره رقاد ... وقصر طوله وصل الحبيب
وقول أبن المستوفي:
حسد الليل الصباح لمّا ضمنا ... غيظا ففرق بيننا داعيه
وقول الآخر:
رأيت في المنام أقل بخلا ... وأطوع منك في غير المنام
فليت الصبح زال فلا نراه ... وليت الليل يبقى ألف عام
ولو إنَّ النعاس يباع حينا ... لأغليت التعاس على النيام
وقول القاضي الفاضل وهو السحر حقا:
بتنا جميعا كيف شاء الهوى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له: ... إن غبت عنا دخل الصبح
وقول أبن الصمد بن المعذل:
أقول وجنح الدجى ملبد ... ولليل في كل فج يدُ
ونحن ضجيعان في مسجدٍ ... فلله ما ضمنا المسجدُ:
قيا ليلة الوصل لا تبعدي ... كما ليلة الهجر لا تنفدُ
ويا غد إن كنت لي راحما ... فلا تدن من ليلتي يا غدُ!
وقول الآخر:
شباب المرء ثوبٌ مستعار ... وأيام الصبا أبداً قصارُ
ولأجل الاعتبالرين كان قول الأعرابي:
تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الغضا ليلي علي يطولُ
وقول أبي الوليد بن زيدون:
أجل إنَّ ليلي فوق شاطئ بيطة ... لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا
وقول عمر بن أبي ربيعة:
فيالك من ليلٍ تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصرُ
ومن الثاني أيضاً قال الآخر:
لله أيام الشباب وعصره ... لو يستعار جديده فيعارُ
ما كان أقصر ليله ونهاره ... وكذاك أيام السرور قصارُ!
وقول أبي بكر بن دريد:
يا رب يومٍ جمعت قطريه لي ... بنت ثمانين عروساً تجتلى
وقد شرح الاعتبارين الوليد بن يزيد في قوله:
لا أسأل الله تغييراً لمّا فعلت ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها
والآخر في قوله:
أخو الهوى يستطيل الليل من أرقٍ ... والليل في طوله جارٍ على قدر
ليل الهوى سنةٌ في الهجر مدته ... لكنه سِنةٌ في الوصل من قصر
والآخر في قوله:
ليلي وليلى سواءٌ في اختلافهما ... قد صيراني جميعاً في الهوى مثلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
وقول جميل:
وقالوا: لا يضرك نأي شهرٍ ... فقالت صاحبي: فمن يضيرُ؟
يطول اليوم إن شحطت نواها ... وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ
وقول بشار:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أنَّ نجوم الليل ليست تغيورُ
ليلي كما شاءت فإن لم تجد ... طال وإن جادت فليلي قصيرُ
تصرف الليل على حكمها ... فهو على ما صرفته يدورُ
وقول الآخر:
تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عينٍ لا تنام طويل!
وقول الآخر:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألم
وقول الفرزدق:
يقولون طال الليل والليل لم يطل ... ولكن من يبكي من الشوق يسهرُ
وهذا المعنى أكثر من أن يستقصى. وترقى عن الاعتبارات قول بعض العارفين المحبين:
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا
إنَّ للعاشقين عن قصر الليل ... وعن طوله من الهم شغلا
وقال أبن حمديس الصقلي في مجونه:
قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح
باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الاقاح!
وقال أيضاً:
بت منها مستعيراً قبلاً ... كن لي منها على الهر اقتراح
وأروى غلل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القراح
وقال الآخر:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاء جناحُ
فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراحُ
والمعنى هنا بالمفتي هو عطاء بن أبي رباح الإمام الفقيه المشهور أحد الكبراء من التابعين. وكان بمكة مفتيا.
قال شمس الدين بن خلكان في تأريخه: لمّا بلغه هذان البيتان قال: والله ما قلت شيئا من هذا! وقال فخر الدين التكريتي:
وما ذات طوق في فروع أراكةٍ ... لها رنةٌ تحت الدجى وصدوحُ
ترامت بها أيدي النوى وتمكنت ... لها فرقةٌ من أهلها ونزوحُ
فحلت بزوراء العراق وزغبها ... بعسفان ثار منهم وطليحُ
تحن إليهم كلما ذر شارقٌ ... وتسجع في جنح الدجا وتنوحُ
إذا ذكرتهم هيجت ذا بلابل ... وكادت بمكتوم الغرام تبوحُ
بأبرح من وجدي بذكراكم متى ... تألق برقٌ أو تنسم ريحُ
وقال أبن الزيات:
سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاحِ
فإنَّ الحب آخره المنايا ... وآخره يهيج بالمزاحِ
وقالوا: دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناحِ
فقلت: وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباحِ؟
وقال مؤيد الدين الموصلي:
يا قالة الشعر قد نصحت لكم ... ولست أدهى إلاّ من النصحِ
فقد ذهب الدهر بالكرام وفي ... ذاك أمورٌ طويلة الشرحِ
وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ... وجوها في غاية القبحِ
وتطلبون السماح من رجلٍ ... قد طبعت نفسه على الشحِّ
من هاهنا تحرمون كدكم ... لأنكم تكذبون في المدحِ
صونوا القوافي فما أرى أحداً ... يعثر فيه الرجاء بالنجاحِ
فإن شككتم فيما أقول لكم ... فكذبوني بواحد سمحِ!
ونحو هذا البيت في المعنى ما حكي أنَّ بعض ظرفاء السؤال مر بقوم يأكلون فقال لهم: يا بخلاء! فأنكروا عليه. فلما سمع إنكارهم قال لهم: كذبوني بلقمة! وقال أبن ميادة:
فنظرن من خلل الحجال بأعينٍ ... مرضى يخالطها السقام صحاحِ
وأرشن حين أردن أن يرمينني ... نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداحِ
وقال آخر يخاطب الناس:
تبعتم السابح في لجه ... ورعتم في الجو ذات الجناح
هذا وأنتم غرضٌ للردى ... فكيف لو خلدتم يا قباحِ؟
وقال أبن الساعاتي:
وكم فيك من عذراء زفت ... لفهمك في غدو أو رواحِ
من الغيد الحسان بلا شبيهٍ ... فكيف يفوتها حظ القباحِ؟
وقال الآخر:
وإذا الفتى من دهره كملت له ... خمسون وهو إلى التفى لم يجنحِ
طلعت عليه المخزيات وقلن قد ... أرضيتنا فكذاك كن لا تبرحِ
وإذا رأى إبليس صورته بدت ... حيى وقال: فديت من لم يفلحِ
ومثله قول التهامي:
إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... وأعجزه الفخار فلا اعتذارُ
إذا ما أوّل الخطي أعطى ... فما يرجى لآخره انتظارُ
وقول الآخر:
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنغر بها ساعة قدرُ
أتاني بها يحيى وقد نمت نومةً ... وقد غابت الشعرى وقد طلع النسرُ
فقالت اغتبقها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشيب ويحك والخمرُ
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا سترُ
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... ولو جر أسباب الحياة له الهرُ
وقال الآخر:
وقولوا: في الهجاء عليك إثمٌ ... وليس الإثم إلاّ في المديح
لأني إن مدحت كذباً ... وأهجو حين أهجو بالصحيحِ
وقال الآخر:
قالوا: تعشقها عمياء قلت لهم: ... ما شأنها ذاك في عيني ولا قدحا
بل زاد وجدي فيها أنها أبداً ... لا تعرف الشيب في فودي إذا وضحا
إن يجرح السيف مسلولا فلا عجبٌ ... وإنّما العجب سيفٌ مغمدٌ جرحا
كأنما هي بستان خلوت به ... ونام حارسه سكران قد طفحا
تفتح الورد فيه من كمائمه ... والنرجس الغض فيه بعد ما انفتحا
ومثله قول أبن سناء الملك:
فتنتني مكفوفةٌ ناظرها ... كتبا لي من الجراح أمانا
فهي لم تسلل الجفون حساماً ... لا ولم تحمل الفتور سنانا
وهي بكر العينين محصنة الأجفان ... ما افتض ميلها الأجفانا
قصرت عشقها علي فلم تع ... شق فلاناً إذ لم تعلين فلانا
عميت من الهوى وأرتحل الانسا ... ن من عينها وأخلى المكانا
علمت غيرتي عليها فخافت ... أن تسمي غيري لها إنسانا
وقال أبن قاضي ميلة:
وكيف لا تدركه نشوةٌ ... واللحظ راح وجنى الريق راح؟
لو لم تكن ريقه خمرةً ... لمّا تثنى عطفه وهو صاح
وقال أبن نباتة السعدي:
وغانية هذه الدنيا فسادٌ ... فكيف نكون منها في صلاحِ؟
هي الخرقاء تنقص بعد نسجٍ ... فما فيها لحيي من فلاحِ
وسيأتي هذا المعنى مستوفي في الحكم إن شاء الله تعالى.
وقال الآخر وكان أبو بكر بن دريد يتمثل به كثيرا أو هو قائله:
فواحزناً إنَّ الحياة لذيذةٌ ... ولا عملٌ يرضي به الله صالحُ
وقلت أنا:
تصبر إن أصابك نبل عوض ... وضاق عليك متسع البراح
فإنَّ الدهر ليس بذي اصطبار ... عليك بل التول والبراح
وإنَّ الخطب أسرع من ذناب ... بمنسجم يسيل إلى سراحي
وما أمر يضيق عليك إلاّ ... بآخره يصير إلى سراح
فكم أمسيت ذا حزن وأصبحت ... تصبح مسرور كؤوس راح
العوض: الدهر كما قال الحماسي:
ولولا نبل عوض في ... خضماتي وأوصالي
لطاعنت صدور الخيل ... طعنا ليس بالآلي
والبراح: المتسع من الأرض لا زرع فيها ولا شجر والبراح في البيت الثاني: الزوال مصدر برح مكانه أي زال عنه والذناب مسيل بين التلعتين والسراحي بالياء الكثمانية جمع سرحان وهو هنا وسط الحوض والسراح في البيت بعده الانسراح والانفراج وتصبح تستقي تقول: صبحت زيدا إذا سقيته الصبوح فهو مصبوح وقولي مسرور فحذفت نون من وهو جائز فصيح.
ولنكتف بهذا القدر والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
2 مايو 2024
تعليقات (0)