المنشورات

دجاجة وتركل.

يضرب لاستبعاد الصولة من الضعيف، والدجاجة معروفة مثلة الأول والجمع دجاج، والركل ضرب الأرض برجل واحدة، وركض الفرس بالرجل، والأرض المركلة المكدود بحوافر الدواب. قال امرؤ القيس يصف فرسا:
مسح إذا ما السحابات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل
ويستعمل الركل، في لسان العرب، في الضرب بالرجل مطلقا، وهو المراد.
ثم نذكر من الشعر في هذا الباب ما تيسر، والله المستعان.
قال طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وإلى معنى هذا البيت أشار أبن شرف في لاميته بقوله:
لا تسأل الناس والأيام عن خبر ... هما يبثانك الأخبار تطفيلا!
وقال دريد بن الصمة:
وهل أنا إلاّ من غزية إنَّ غوت ... غويت وإنَّ ترشد غزية أرشد
وغزية قبيلة، وهي فيما أظن بفتح المعجمة وكسر الزاي. وهكذا رأيته في نسخة من الصحاح مضبوطا بالقلم، ويؤيده ما في القاموس من انهم يسمون غازية وغزية كغنية ولم يثبت في أسمائهم غزية. بلفظ التصغير. وقال من هذه القصيدة أيضاً:
أمرتهم أمري بمنزعج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلاّ ضحى الغد
وتمثل بهذا البيت أمير المؤمنين على كرم الله وجهه على المنبر، في قصة التحكيم حين وقع ما وقع من الحكمين يعاتب أهل العراق ويوبخهم على سفاهة رأيهم في ذلك وتوجيههم أبا موسى الأشعر، والقصة مشهورة. وعلى هذا البيت نبه أبن شرف بقوله في لاميته:
يرى البليد البلايا بعد ما نزلت ... وذو الذكاء يرى الأشياء تبخيلا وقال الأسود بن يعفر:
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ونظمه أبن شرف في لاميته بقوله:
بادوا كأنهم للفرقة اتعدوا ... فلم يكن ذلك الميعاد ممطولا
وقال الآخر:
أجل إذا طالبت في طلب ... فالجد يغني عنك لا الكد!
ونظمه أبن شرف بقوله:
والجد يغني الفتى عم كد مهجته ... فليغتد تكثير حرص المرء تقيلا!
وقال الشاعر:
السيف يقطع وهو ذو صدإٍ ... والحد يفري الهام لا الغمد
ونظمه أبن شرف بقوله:
والنفس جوهرة ملبوسها صدف ... والسيف يقطع رذل الغمد مفلولا
وقال:
هل تنفعن السيف حليته ... يوم الجلاد إذا نبا الحد
ونظمه أبن شرف بقوله:
ورب سيف كهامٍ لا مضاء له ... وقد تراه محلى المد مصقولا
وقال الآخر:
وإنَّ أمرءاً يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلاّ ما جنى لسعيد
ونظمه أبن شرف بقوله:
ومن يعاقب بما تجني يداه بلا ... ظلم التجني فقد نال اليد الطولى
وقال الآخر:
وغيظ على الأيام كالنار في الحشى ... ولكنه غيظ الأسير على القد
ونظمه أبن شرف بقوله:
لنا على الدهر غيظ ليس ينفعنا ... غيظ الأسير أسير القد مغلولا
وقال الآخر:
ماذا لقيت من الدنيا وأجبه ... إني بما أنا باك منه محسودا!
ونظمه أبن شرف بقوله:
قل للحسود على أشياء تحزنني: ... خذها احتقاراً وتهويناً وترذيلا!
وقال بعض العرب:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبرٍ أعضادها
وجعلت أوصابها تعتادها ... فهن زروع قد دنا حصادها
وقال الآخر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي!
وما أحسن قول عز الدين المقدسي في كتابه كلام الطيور والأزهار على لسان الغراب:
أنوح على ذهاب العمر مني ... وحق أن أنوح وأن أنادي
وأندب كلما عاينت ربعا ... حدا بهم لوشك البين حادِ
يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحدادِ
فقلت له: اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهادِ!
وها أنا كالخطيب وليس عيباً ... على الخطباء أثواب السوادِ
ألم ترني إذا عاينت ركباً ... أنادي بالنوى في كل نادِ
أنوح على الطول فلم يجبني ... بساحتها سوى خرس الجمادِ
فأكثر في نواحيها نواحي ... من البين المفتت للفؤادِ
فما من شاهدٍ في الكون إلاّ ... عليه من شهود الغيب نادِ
فكم من رائحٍ فيها وغادٍ ... ينادي من دنوٍّ أو بعادِ
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي!
وقال الحطيئة: وما قلت إلاّ بالذي علمت سعدُ وهذا مثل مشهور وصدر البيت:
وتعذلني أبناء سعدٍ عليهم
وهذا البيت من جملة أبيات له وهي من جيد شعره. يقول فيها:
وإنَّ التي نكبتها عن معاشرٍ ... عليَّ غضابٍ أن صددت كما صدوا
أتت آل شماش بن لأيٍ وإنّما ... أتاهم بها الأحلام والحسب العدُ
فإنَّ الشقي من تعادي صدورهم ... وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدُ
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا!
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادثٍ ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
فكيف ولم أعلمهم خذلوك ... على معظمٍ ولا أديمكم قدوا؟
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى ... بنى لهم آبائهم وبنى الجدُ
فمن مبلغ أبناء سعدٍ فقد سعى ... إلى السورة العليا لهم حازمٌ جلدُ
رأى مجد أقوامٍ أضيع فحثهم ... على مجدهم لمّا رأى أنه الجهدُ
وتعذلني أبناء سعدٍ " البيت "
وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي:
ما لامرئٍ خاض في بحر الهوى عمر ... إلاّ وللبين فيه السهل والجدُ
كما نما البين من إلحاحه أبداً ... على النفوس أخ للموت أو ولدُ
وقال يخاطب محمد بن يوسف:
واعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إنَّ العلى حسنٌ في مثلها الحسدُ!
وقال أيضاً في وداعه لعلي بن الجهم يمدحه:
هي فرقةٌ من صاحب لك ماجدٍ ... فغداً إذابة كل دمعٍ جامدِ
فافزع إلى ذخر الشؤون وغربه: فالدمع يذهب بعض جهد الجاهدِ
فإذا فقدت أخاً فلم تفقد له ... دمعاً ولا صبراً فلست بفاقدِ
ومنها:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاءٍ تالدِ
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدر من غمامٍ واحدِ
أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناه مقام الوالدِ
وقال أيضاً من قصيدة أخرى:
سقته ذعافاً غارة الدهر فيهم ... وسم الليلي فوق سم الأساودِ
ومنها:
غدا قاصدا للحمد حتى أصابه ... وكم من مصيبٍ قصده غير قاصد!
ومنها:
يصد عن الدنيا إذا عنَّ سؤددٌ ... ولو برزت في زي عذراء ناهد
إذا المرء لم يزهد وقد صبغت له ... بعصفرها الدنيا فليس بزاهد
وقال أيضاً من أخرى:
إذا انصرف المحزون قد فل صبره ... سؤال المغاني فالبكاء له ردُ
ومنها:
نوى كانقضاض النجم كانت نتيجة ... من الهزل يوماً إنَّ هزل الهوى جدُ
فلا تحسبا هندا لها العذر وحدها ... سجية نفسٍ كل غانيةٍ هندُ
ومنها:
وقدٌ من الأيام وهي قديرةٌ ... وشر السجايا قدرةٌ حازها حقدُ
إساءة دهرٍ أذكرت حسن فعاله ... إلي ولولا الشري لم يعرف الشهدُ
وقال أيضاً:
ومن يأذن إلى الساعين يسلق ... مسامعه بألسنةٍ حدادِ
وقال أيضاً:
ولكم عدوقال لي متمثلاً: ... كم من ودودٍ ليس بالمودودِ!
ومنها:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسودِ
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العودِ
لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النعمى على المحسودِ
يعطي لها البشرى الكريم ويحتبي ... بردائها في المحفل المشهودِ
بشرى الغنى أبي البنات تتابعت ... بشراه بالفارس المولودِ
وقال أيضاً:
وإني رأيت الوسم في خلق الفتى ... هو الوسم لا ما كان في الشعر والجلدِ
وقال أيضاً:
ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً ... ففزت به إلاّ بشملٍ مبددِ
ولم تعطني الأيام نوما مسكناً ... ألذ به إلاّ بنوم مشردِ
وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجته فاغترب تتجددِ!
فإني رأيت الشمس زيدت محبةً ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمدِ
ومنها:
وليس يجلي الكرب رأي مسددٌ ... إذا هو لم يؤنس برمح مسددِ
ومنها:
محاسن أصناف المغنين جمةٌ ... وما قصبات السيف إلاّ لمعبدِ
وقال ابيضا:
أحلى الرجال من النساء مواقعاً ... من كان أشبههم بهن خدودا
حتى إذا ما الشعر سود وجهه ... كان المسود بينهن مسودا
ومنه:
ما إن ترى الأحساب بيضاً وضحاً ... إلاّ بحيث ترى المنايا سودا
ومنها:
أيقنت أنَّ من السماح شجاعةٌ ... تدمي وأنَّ من الشجاعة جودا؟
ومنها:
إنَّ القوافي والمساعي لم تزل ... مثل النظام إذا أصاب فريدا
هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألفته ... بالشعر صار قلائداً وعقودا
في كل معتركٍ وكل مقامٍ ... يأخذن منه ذمةً وعقودا
وقال أيضاً:
شاب رأسي وما رأيت مشيب ... الرأس من فضل شيب الفؤادِ
وكذاك الرؤوس في كل بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائع الأجسادِ
طال إنكاري البياض وإن عمر ... ت شيئا أنكرت لون السوادِ!
ومنها:
وضياء الأمور أفسح في الطرف ... وفي القلب من ضياء البلادِ
ومنها:
غير أنَّ الربى إلى سبل الأنواء ... أدنى والحظ حظ الوهادِ!
ومنها:
كأنَّ شيء غثٌ إذا عاد والمعروف ... غث ما كان غير معادِ
وقال أيضاً:
وما شيء من الأشياء أمضى ... على المهجات من رأي سديدِ
وقال أيضاً:
لم تنكرين مع الفراق تبلدي ... وبراعة المشتاق أن يتبلدا؟
وقال أيضاً:
والسيف أعمى غير أنَّ غراره ... يقظٌ إذا هادٍ نحاه لهادِ
ومنها:
ومن العجائب شاعرٌ قعدت به ... هماته أوضاع عند جوادِ
وقال أيضاً:
ما كل من شاء استمرت بالندى ... يده ولا استوطا فراش الجودِ
وقال أيضاً:
وكذا المنايا يطأن بمنسمٍ ... إلاّ على أعناق أهل الؤددِ
وقال أيضاً:
لو يعلم الناس علمي بالزمان وما ... عاثت يداه لمّا ربوا ولا ولدوا!
وقال أبو الطيب أحمد بن الحسن المتنبي:
فما ترجي النفوس من زمن ... أحمد حاليه غير محمودِ
إنَّ نيوب الزمان تعرفني ... أنا الذي طال عجمها عودي
وفي ما قارع الخطوب وما ... آنسني بالمصائب السودِ
وقال أيضاً من قصيدة:
إذا كنت تخشى العار في كل خلوةٍ ... فلم تتصباك الحسان الخرائدُ
ومنها:
أهم بشيءٍ والليالي كأنها ... تطاردني عن كونه وأطاردِ
وحيدٌ من الخلان في كل بلدةٍ ... إذا عظم المطلوب قل المساعدُ
ومنها:
ولكن إذا يحمل القلب كفه ... على حالةٍ لم يحمل الكف ساعدُ
ومنها:
أحقهم بالسيف من ضرب الطلا ... وبالأمن من هانت عليه الشدائدِ
ومنها:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
ونظمه أبن شرف بقوله:
وموت قومٍ حياةٌ عند غيرهم ... وقد أبى الدهر بين الناس تعديلا
ومنها:
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائدُ
ومنها:
فإنَّ قليل الحب بالعقل صالحٌ ... وإنَّ كثير الحب بالجهل فاسدُ
وقال أيضاً من أخرى:
لكل امرئ من دهره ما تعمدا
ومنها:
ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه ... تصيده الضرغام فيمن تصيدا
ونظمه أبن شرف بقوله:
ولا تضمن ليثاً كي تصيد به ... فتغتدي خاتلاً للصيد مختولا
ومنها:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع النى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندا
ومنها:
ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني ... أنا الصئح المحكي والآخر الصدا
ومنها:
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
وقال أيضاً:
يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها
ومنها:
فعد بها لا عدمتها أبداً: ... خير صلات الكريم أعودها
وقال أيضاً:
عش عزيزا أو من وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنودِ!
فرؤوس الرماح أذهب للغيظ ... وأشفى لغل صدر الحقودِ
لا كما قد حييت غير حميدٍ ... وإذا مت، مت غير فقيدِ
فاطلب العز في لظى ودر الذل ... ولو كان في جنان الخلدِ!
يقتل العاجز الجبان وقد يعجز ... عن قطعٍ بخنق المولودِ
ويوقى الفتى المخش وقد خوَّ ... ض في ماء لبه الصنديدِ
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودِ
وقال أيضاً:
يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفذُ؟
وقال أيضاً:
وكم للهوى من فتى مندف ... وكم للنوى من قتيل شهيدِ!
ومنها:
فما لك تقبل زور الكلام ... وقدر الشهادة قدر الشهودِ؟
وقال أيضاً:
وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يومٌ يمر بمستعادِ
ومنها:
فإنَّ الجرح ينفر بعد حينٍ ... إذا كان البناء على فسادِ
وإنَّ الماء يخرج من جمادٍ ... وإنَّ النار تخرج من زنادِ
وقال أيضاً:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما التثموا مردُ
ثقالٍ إذا لاقوا خفافٍ إذا دعوا ... كثيرٍ إذا شدوا قليلٍ إذا عدوا
ومنها:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صدلقته بدُ
يروح ويغدو كارها بوصاله ... وتضطره الأيام والزمان النكدُ
وزعموا أنه قد قيل له إذ تنبأ: لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ فقال: هذا البيت.
وقال أيضاً:
من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الهر شيئاً يحمدُ
وقال أيضاً:
إذا غدرت حسناء أوفت بعدها ... ومن عهدها أن لا يدوم لها عهدُ
وإن عشقت كانت أشد صبابةً ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصدُ
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضى ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقدُ
كذلك أخلاق النساء وربما ... يصل بها الهدي ويخفى بها الرشدُ
ومنها:
يرمون شأوي في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيما سوى المنطق القردُ
ومنها:
وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقدُ
وقال أيضاً:
أبى خلق الدنيا تدميه ... فما طلبي منها حبيبا تردهُ
وأسرع مفعولٍ فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضدهُ
ونظم الأول أبن شرف بقوله:
قد يحتني الدهر من كفيك ما اجتنتا ... فكيف ما كان عن كفيك معزولا؟
ومنها:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده
ومثله قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
وأحق خلق الله بالهم امرؤٌ ... ذو همة يبلى بعيشٍ ضيقِ
وبعده:
فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل نجدٌ كان بالمل عقدهُ
ودبره تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زندهُ
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجدهُ
ونظم هذا أبن شرف بقوله:
لا مال إلاّ بمجدٍ فالتمسه ولا ... مالٌاذا لم يكن بالمجد مشمولا
هكذا وجدته وكأنه تحريف وإنّما قال هكذا:
لا مال إلاّ بمجدٍ فالتمسه ولا ... مجدٌ إذا لم يكن بالمال مشمولا
أو هكذا:
لا مجد إلاّ بمالٍ فالتمسه ولا ... مالٌ إذا لم يكن بالمج مشمولا
ومنها:
إذا كنت في شك من السيف فابله: ... فإنما تنفيه وإما تعدهُ
وما الصارم الهني إلاّ كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمدهُ
وقال أيضاً:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسادِ
ومنها:
وكلام الوشاة ليس على الأحباب ... سلطانه على الأضدادِ
إنما تنجح المقالة في المرء ... إذا وافقت هوى في القادِ
ومنها:
قد يصيب الفتى المشير ولم يجهد ... ويشوي الصاب بعد اجتهادِ
ومنها:
وإذا الحلم لم يكن في طباعٍ ... لم يحلم تقادم الميلادِ
ومنها:
إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولادِ
ومنها:
هذه دولة المكارم والرأ ... فة والمجد والندى والأيادي
ومنها:
كيف لا يطرق الطريق لسيلٍ ... ضيقٍ عن أتيه كل وادِ
وقال أيضاً:
إذا أردت كميت اللون صافيةً ... وجتها وحبيب النفس مفقودُ
ماذا لقيت من الدنيا وأجبه؟ ... أني بما أنا باكٍ منه محسودُ
ومنها:
العبد ليس لحر صالح بأخٍ ... لو أنه في ثياب الحر مولودُ
لا تشتري العبد إلاّ والعصا معه ... إنَّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ!
ما كنت أحسبني أحيى إلى زمنٍ ... يسيء بي فيه كلبٌ وهو محمودُ
ومنها:
إنَّ امرءاً أمه حبلى تدبره ... لمستضامٌ سخين العين مفؤودُ
وعندها لذلك طعم الموت شاربه ... إنَّ المنية عند الذل قنديدُ
وقال أيضاً:
إنَّ في الموج للغريق لعذراً ... واضحا أن يفوقه تعداده
وقال أيضاً:
وغيظٌ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القدِّ
ومنها:
وليس حياء الوجه في الذئب شيمةً ... ولكنه من شيمة الأسد الوردِ
وقال أيضاً:
رأوك لمّا بلوك نابتةً ... يأكلها قبل أهله الرائدُ
وخل زياً لمن يحققه: ... ما كل دامٍ جبينه عابدُ
ومنها:
فالأمر لله رب مجتهدٍ ... ما خاب إلاّ لأنه جاهدُ
وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوح باكٍ ولا ترنم شادِ
وشبيهٌ صوت النعي إذا قيس ... بصوت البسير في كل نادِ
ومنها:
تعبٌ كلها الحياة فما أعجب ... إلاّ من راغبٍ في ازديادِ!
إنَّ حزناً في ساعة الموت أضعا ... فقط سرور في ساعة الميلادِ
خلق الناس للبقاء فضلت ... أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
إنّما ينقلون من دار أعما ... لٍ إلى دار شقوةٍ أو رشادِ
ضجعة الموت رقدةٌ يستريح ... الجسم فيها والعيش مثل السهادِ
ومنها:
زحلٌ أشرف الكواكب داراً ... من لقاء الردى على ميعادِ
والنار المريخ من حدثان ... الدهر مطفٍ وإن علت في اتقادِ
ومنها:
وإذا البحر غاض عني ولم أرو ... فلا ري بادخار الثمادِ
كل بيتٍ للهدم ما تبنتني الور ... قاء والسيد الرفيع العمادِ
والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظل ... السدر ضرب الأطناب والأوتادِ
بان أمر الإله واختاف النا ... سُ فداعٍ إلى الضلال وهادِ
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدثٌ من جمادِ
واللبيب اللبيب من ليس يغتر ... بكونٍ مصيره للفساديِ
وقال أيضاً:
أحسن بالأحد من وجده ... صبرٌ يعين النار في زنده
ومن أبى في الرزء إلاّ الأسى ... كان أساه منتهى جهدهِ
ومنها:
والشيء لا يكثر مداحه ... إلاّ إذا قيس إلى ضدهِ
لولا عضى نجدٍ وقلامه ... لم يثن بالطيب على رندهِ
ليس الذي يبكي على وصله ... مثل الذي يبكي على فقدهِ
والطرف يرتاح إلى غمضه ... وليس يرتاح إلى سهدهِ
ومنها:
إن لم يكن رشد الفتى نافعاً ... فغيه أنفع من رشدهِ
ومنها:
لو عرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبدهِ
أمس الذي مر على قربه ... يعجز أهل الأرض عن ردهِ
ومنها:
سلم إلى الله فكل الذي ... ساءك أو سرك من عندهِ
لا يعدم الأسمر في غابه ... حتفاً ولا الأبيض في غمدهِ
وقال أيضاً:
أفوق البدر يوضع لي مهاد ... أم الجوزاء تحت يدي وسادُ؟
قنعت فخلت أنَّ النجم دوني ... وسيان التقنع والجهادِ
وأطربني الشباب غداة ولى ... فليت سنيه صوتٌ يستعادُ!
وليس صباً يعاد وراء شيبٍ ... بأعوز من أخي ثقةٍ يفادُ
ومنها:
سفاهٌ ذاد عنك الناس حلمٌ ... وغيٌ فيه منفعةٌ ورشادُ
وقال أيضاً:
ثلاثة أيامٍ هي الدهر كله ... وما هو غير الأمس واليوم والغدِ
ومنها:
وقد يجتدى نيل الغمام وإنّما ... من البحر فيما يزعم الناس يجتدي
ويهدي الدليل القوم والليل مظلمٌ ... ولكنه بالنجوم يهدي ويهتدي
ومنها:
وليس قضيب الهند إلاّ كنابتٍ ... من القصب في كف الهدان المعردِ
الهدان على مثال كتاب: الجبان ويقال هو الأحمق الثقيل.
ومنها:
أرى المجد سيفاً والقريض نجاده ... ولولا نجاد السيف لم يتقلدِ
وخير حمالات السيوف حمالٌ ... تحلت بأبكار الثناء المخلدِ
وقال أيضاً:
كذاك الليالي ما يجدن بمطلبٍ ... لخلقٍ ولا يبقين شيئاً على عهدِ
وقال أيضاً:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا!
وما نهنهت في طلبٍ ولكن ... هي الأيام لا تعطي قيادا
فلا تلم السوابق والمطايا ... إذا غرضٌ من الأغراض حادا
ومنها:
إذا ما النار لم تطعم ضراما ... فأوشك أن تمر بها رمادا
فظن بسائر الأخوانشراً ... ولا تأمن على سرٍّ فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لمّا طلعت مخافة أن تكادا
تجنبت الأنام فما أواخي ... وزدت عن العدو فما أعادى
ولمّا أن تجهمني زماني ... جريت مع الزمان كما أرادا
وقال أيضاً يخاطب خاله وقد سافر إلى المغرب:
ظعنت لتستفيد أخاً وفياً ... وضيعت القديم المستفادا
وقال طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد وضاضةً ... على الحر من وقع الحسام المهندِ
وقال عدي بن زيد:
إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه: ... فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام جنلت الشر للشر فاقعدِ
وقال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للموت الذي كان أرصدا
وقال المهلبي:
وكيف جحود القلب والعين تشهدُ؟
وقال أيضاً:
ولا خير فيمن لا يدم له عهدُ
وقال الخريمي:
وحسبك مني أن أود فأجهدا
وقال الخوارزمي:
لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالحٍ بفساد آخر يفسدُ!
عدوى البليد إلى الجليد سريعةٌ ... والجمر يوضع في الرماد فيخمدُ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
حسنٌ في كل عينٍ من تود
وقال أيضاً:
وكل ريحٍ لها هبوبٌ ... يوما فلا بد من ركودِ
وقال الآخر:
إذا أكل الأحباب لحمي بغيبةٍ ... فأهون منه ما ستأكله الدودُ!
وقال الآخر:
إذا قل عقل المرء قلت همومه ... ومن لم يكن ذا مقلةٍ كيف يرمدُ؟
وقال الآخر:
إذا كان غير الله للمرء عدةً ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وقال الآخر:
تخونون عهدي في الهوى وأحبكم ... كذا الورد محبوبٌ وليس له عهد
وقال الآخر:
تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي!
وقال الآخر:
تصافحت الأكف وكان أشهى ... إلينا لو تصافحت الخدودُ
وقال الآخر:
تعدون ذنباً واحداً إن جنيته ... عليكم ولا أحصي ذنوبكم عدا
وقال أبو الطيب:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
وقال الآخر:
ثوبي على من كسوت في نظري ... أزين من كونه على جسدي
وقال الآخر:
جامل عدوك ما استطعت فإنما ... بالرفق يطمع في صلاح الفاسد!
وقال الآخر:
جدلي يعفوك يا من دأبه الجود ... فالجود عندك مأمول ومعهود
وقال الآخر:
جعلت إليك يا ربي انقطاعي ... إذا انقطع العباد إلى العبادِ
وقال الآخر:
حاشاك أن يقبض الزمان يدي ... عن نيل سؤالٍ وأنت لي عضدُ
ومثله:
حاشاك يا قوتي ويا سندي ... يضعف ركني وأنت لي سندُ
وقال الآخر:
حسبي بقلبي شاهدٌ لك في الهوى ... والقلب أعدل شاهدٍ يشهدُ
وقال الآخر:
ذو العقل يسخو بعيش ساعته ... وبالذي بعدها تشح يده
غيره:
رأيت دنو الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان ما بين الفؤاد بعيدا
غيره:
رسول الله كذبه الأعادي ... فلا تجزع لتكذيب الجحودِ!
غيره:
رينك الله في القلوب كما ... زين في قلب والدٍ ولدا
غيره:
سقى الله أياماً تقضت بقربكم ... كأني بها قد كنت في جنة الخلدِ!
غيره:
سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلةً ... من العمر إلاّ من حبيبٍ على وعدِ!
غيره:
صحح لنا والدةً أولاً ... وأنت في حل من الوالدِ
غيره:
صل من دنا وتناس من بعدا: ... لا تكرهن على الهوى أحدا!
غيره:
طعم عيشي مرٌ إذا لم تزرني أبداً ... قصير عمر الأعادي والمواعيدِ
غيره:
قد جن أصحابك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائدة!
غيره:
قد حفظوا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلاّ سورة المائدة!
غيره:
قد يصاد القطا ويغدو سليما ... ويحل البلاء بالصيادِ
غيره:
قلَّ الثقات فإن ظفرت بواحدٍ ... فاشدد يديك وأين ذاك الواحدُ؟
غيره:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفسادِ
غيره:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسادِ
غيره:
كلما زادت الذبالة ضوءاً ... كان أدنى لها إلى الإخمادِ
غيره:
كلما قلت أعتق الشكر رقي ... صيرتني لك المكارم عبدا
غيره:
كلوا اليوم من رزق الإله وابشروا: ... فإنَّ على الرحمن رزقكم غدا!
غيره:
كم تائه بولايةٍ ... وبعزله يغدو البريد!
غيره:
لأخرجن من الدنيا وحبكم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد
غيره:
لمائدةٍ موضوعةٍ ألف عائبٍ ... وعيب التي لم توضع الدهر واحدُ
غيره:
لم أبك من زمن أشكو مساءته ... إلاّ بكيت عليه حين أفقده
غيره:
لو علمنا مجيئكم لفرشنا ... تحت أقدامكم بساط الخدودِ
غيره:
ليس في العلمين أفقنع مني ... أنا أرضى بنظرةٍ من بعيدِ
غيره:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يدٌ إلاّ بما تجدُ
غيره:
معاتبة الأحباب تحسن مرةً ... فإن أكثروا منها تؤول إلى الصدِّ
غيره:
من لم يبت والحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تفتت الأكبادِ
غيره:
نعم الإله على العباد كثيرةٌ ... وأجلهن نجابة الأولادِ
غيره:
وأحسن من وجه الصنيعة شكرها ... وأقبح من حرمان نعمى جحودها
غيره:
وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ ... فهو المراد وأين ذاك الواحدُ؟
غيره:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... شجوناً فزدني من حديثك يا سعدُ!
غيره:
ودع ظلم العباد فليس شيءٌ ... أضر عليك من ظلم العبادِ!
غيره:
وكل أخٍ عند الهوينا ملاطفٌ ... ولكنما الإخوان عند الشدائدِ
غيره:
وكنت من الناس في محفلٍ ... فقد صرت في محفلٍ من قرودِ!
غيره:
ولا بدلي من خفةٍ في وصاله ... فمن لي بخلٍّ أودع العقل عندهُ؟
غيره:
ولرب عودٍ قد يشق لمسجدٍ ... نصفاً وآخره لبيت يهودي!
غيره:
ولربما نال المراد مرفهٌ ... لم يسع فيه وخاب سعي الجاهدِ
غيره:
وليس قريباً من تخاف بعاده ... ولا من يرجى قربه ببعيدِ
غيره:
وما الدهر إلاّ ما ترى: فتى علت ... يداك بدنيا فاصطنع بهما يدا!
غيره:
وما الشعر إلاّ روضةٌ راق زهرها ... ولا سيما إن كان قد وقع الندا
غيره:
وما المال والأيام إلاّ معرةٌ: ... فما استطعت من معروفها فتزودِ
غيره:
وما حملت من ناقةٍ فوق راحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمدِ
وهذا أصدق بيت قاله شاعر بعد قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل!
غيره:
وما كان طرفي بالسهاد معودا ... ولكنه لمّا هجرتم تعودا
غيره:
وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يومٌ يسر بمستعادِ
غيره:
ويفسد بالإكثار ما هو صالحٌ ... ويصلح بالإقلال ما هو فاسدُ
غيره:
لا تحقرن صغيراً في تقلبه ... إنَّ البعوضة تدمي مقلة الأسد!
غيره:
وللشرارة نارٌ حين تضرمها ... وربما أضرمت ناراً على بلدِ
غيره:
لا تلق إلا بليلٍ من تواعده: فالشمس نمامةٌ والبدر قوادُ
غيره:
لا يحسد المرء إلاّ من فضائله ... لا عاش من عاش يوماً غير محسودِ!
غيره:
يا أخلاي هل يعود التداني ... منكم بالحمى يعود رقادُ؟
غيره:
يا رب من أسخطنا بجهده ... قد سرنا جهلاً بغير قصدهِ
غيره:
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرك لنا عوداً وحرق عودا!
غيره:
يا من يعد الميتين تعجباً ... عما قليل سوف تدخل في العدد
غيره:
يجود بالنفس إذ ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ
غيره:
يدبر بالنجوم وليس يدري ... ورب النجم يفعل ما يريدُ
غيره:
يرى عاقبات الرأي والأمر عازبٌ ... كأن له في اليوم عينا على غدِ
ومثله:
يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كهانُ
غيره:
يشرون مثل ثيابه وعبيده ... أفيقدرون على شراء أسوده؟
غيره:
إلهي على كل الأمور لك الحمد ... فليس لمّا أوليت من نعمٍ حدُ!
وقال ابن أبي عيينة:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسادِ
ومثله قول حبيب:
أجرؤ لكني نظرت فلم أجد ... أجرأ يفي بشماتة الأعداءِ
وقال الآخر:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلةٌ إنسانها باهتُ
ومدنفٌ تصرم أحشاؤه ... بالنار إلاّ أنه ساكتُ
رق له الشامت مما به: ... يا ويح من يرثي له الشامتُ!
ويروى أنه قيل لأيوب عليه السلام: أي شيء كان في بلائك أشد عليك؟ فقال: شماتة الأعداء!
وقال علقمة الفحل:
ويلم لذات الشباب معيشته ... مع تاكثر يعطاه الفتى المتلف الندي
وقد يقصر القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجدِ
القل بالضم: الإقلال؛ وهمه: ما يهم بفعله من المكارم والعطايا فيمنعه الفقر من ذلك كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... يقصر دون مبلغها مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخلٍ ... ومالي لا يبلغني فعالي
وقال أيضاً:
يا لهف نفسي على ملٍ أفرقه ... على المقلين من أهل المروءاتِ
إنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيباتِ
وفلان طلاع أنجد أي ذو أفعال كريمة ومآثر عظيمة؛ والأنجد جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض جعل طلوعه كناية عن البروز والاستعلاء وعدم الاستتار كقول الآخر:
أنا أبن جلا وطلاع الثنايا
وقول دريد بن الصمة:
كميش الازار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من السوءات طلاع أنجدِ
وقال الآخر:
لعمري ما يدري الفتى أي يومه ... وإن كان محروساً على الرشد أرشدُ
أفي عاجلات الأمر أم آجلاته ... أم اليوم أدنى للسعادة أم غدُ؟
وقال المثقب:
وللموت خيرٌ للفتى من حياته ... إذا لم يثب للأمر إلاّ بقائدِ
ويروى:
إذا لم يطق علياء إلاّ بقائدِ
وبعده:
فعالج جسيمات الأمور ولا تكن ... هبيت الفؤاد همه للوسائدِ
إذا الريح جاءت بالحمام تشله ... هذاليله شل القلاص الطرائدِ
وأعقب نوء المرزمين بغبرةٍ ... وقطر قليل الماء بالليل باردِ
كفى حاجة الأضياف حتى يريحها ... على الحي منا كل أروع ماجدِ
تراه لتفريج الأمور ولفها ... لمّا نال من معروفها غير زاهدِ
وليس أخونا عند شيء يخافه ... ولا عند خيرٍ إن رجاه بواحدِ
إذا قيل من للمعضلات أجابه ... عظام اللهى منا طوال السواعدِ
الهبيت الفؤاد: الضعيف، والهذاليل جمع هذلول وهو ما طال من الرمال. وهذاليل الريح: ما امتد منها؛ والمرزمان نجمان مع الشعريين.
وقال حارث بن عمرو:
إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليثٌ حديد الناب عند الثرائدِ
وهذا الشعر هجا به أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فقال عبد الملك بن مروان يوما لأمية هذا: مالك ولحرثان بن عمرو إذ يقول فيك: إذا هتف العصفور " البيت "؟ فقال: يا أمير المؤمنين وجب عليه حدّثني فأقمته عليه. فقال: هلا درأت بالشبهات عنه؟ فقال: كان حده أبين وكان زعمه علي أهون. فقال عبد الملك: يا بني أمية! أحسابكم أنسابكم لا تعرضوها للجهال: فإنه باق ما بقي الدهر والله ما يسرني أني هجيت بهذا البيت وأن لي ما طلعت عليه الشمس:
تبيتون في المشتى ملئ بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
وما يبالي من مدح بهذين البيتين إلاّ يمدح بغيرهما:
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذلُ
قلت: وهذان البيتان لزهير وقبلهما:
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ... ونال كرام المال في الجحرة الأكلُ
رأيت ذوي الحاجات حول بيتهم ... قطينا بها حتى إذا نبت البقلُ
هنالك " البيت "
وبعده
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعلُ
على مكثريهم " البيت " قوله: إن يستخبلوا، الاستخبال أن يستعير الرجل من آخر إبلا يحلبها ويشرب ألبانها فإذا أخصب ردها. وأنكر بعضهم هذا اللفظ وقال: لعله قال يستخولوا والاستخوال يملكها إياه.
وقوله: أن ييسروا يغلوا، يريد أنهم إذا يسروا بالقداح أعطوا سمان الإبل وأغلاها ثمنا. وتقدم هذا المعنى. وقال أعرابي كان يمنعه أبوه من الضرب في الأرض وطلب المعيشة شفقة عليه فكتب إلى أبيه:
ألا خلني أذهب لشأني ولا أكن ... على الناس كلا إنَّ ذا لشديدُ
أرى الضرب في البلاد يغني معاشرا ... ولم أر من يجدي عليه قعودُ
أتمنعني خوف المنايا ولم أكن ... لأهرب مما ليس عنه محيدُ؟
فدعني أجول في البلاد لعلني ... أسر صديقاً أو يساء حسودُ
فلو كنت ذا مالٍ لقرب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت سديدُ
وسياتي ما قيل في هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى وقال كلثوم بن عمرو:
إنَّ الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهودُ
وللبخيل على أمواله عللٌ ... زرق العيون عليها أوجهٌ سودُ
وكان كلثوم هذا كتب إلى صديق له: أما بعد أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة! فإنك كنت عندنا روضة من رياض الكرم تبتهج النفوس لها وتستريح القلوب إليها. وكنا نعفيها من النجعة استتماما لزهرتها وشفقة على خضرتها وادخارا لثمرتها حتى اصابها سنة كانت عندي قطعة من سني يوسف واشتد علينا كدها وغابت عنا فضلها وكذبتنا غيومها وأخلفتنا بروقها وفقدنا صالح الإخوان فيها فانتجعتك وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك مع علمي بأنك نعم موضع الزاد وأنك نغطي عين الحاسد. والله يعلم أني ما أعدك إلاّ في حومة الأهل. وأعلم أنَّ الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل ولم يحضره الكثير لم يعرف جوده ولم تظهر همته. وأنا أقول في ذلك:
ظل اليسار إلى العباس ممدود ... وقلبه أبداً بالمحل ممدودُ
إن الكريم. . الخ قيل: فشاطره ماله حتى أعطاه إحدى نعليه ونصف قيمة خاتمه.
واجتمع جماعة بباب دار عدي بن الرقاع فخرجت إليهم بنية له صغيرة فقالت لهم: ما تريدون؟ فقالوا لها: نريد أباك. فقالت: وما حاجتكم به؟ فقالوا: جئنا إليه نهاجيه. فقالت على الفور:
تجمعتم من كل أوب ووجهةٍ ... على واحدٍ لا زلتم قرن واحدِ
وقال أبو مسلم الخرساني:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى بجدي في دمارهم ... والقوم في غفلة الأيام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحدِ
ومن رعى غنما في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسدُ
وقال الآخر:
وأكرم نفسي إن أهنها لأنها ... وحقك لم تكرم على أحدٍ بعدي
حدث الأصمعي قال: مررت في بعض سكك الكوفة فإذا رجل خرج من حش على كتفه جرة وهو يقول: وأكرم نفسي " البيت ". قال: فقلت له: أبمثل هذا تكرمها؟ قال: نعم! وأستغني عن مسألة مثلك. فصاح: يا أصمعي! فالتفت فقال:
لنقل الصخر من قلل الجبال ... أحب إلي من منن الرجال
يقول الناس كسب فيه عارٌ ... وكل العار في ذل السؤال!
وقال الآخر:
يا أيها الأخوان أوصيكم ... وصية الوالد والوالدة
لا تنقلوا الأقدام إلاّ إلى ... من ترتجي من عنده فائدة
إما لعلم تستفيدونه ... أو لكريم عنده مائدة!
وروي عن الأصمعي قال: لقيني أبو عمرو بن العلاء وأنا ماشٍ في بعض أزقة البصرة فقال: إلى أين يا أصمعي؟ قلت: لزيارة بعض إخواني. فقال: يا أصمعي إن كان لفائدة أو لمائدة وإلاّ فلا! وقال الآخر:
ولمّا رأيت الدهر أنحت صروفه ... علي وأوهت بالذخائر والعقد
حذفت فصول العيش حتى رددتها ... إلى القوت خوفاً أن أجاء إلى أحد
وقلت لنفسي: أبشري وتوكلي ... على قاسم الأرزاق والواحد الصمد
فإلا تكن عندي دراهم جمةٌ ... فعندي بحول الله ما شئت من جلد
وقال الآخر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم: ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا عيطاً بما يجدُ
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منها ولا أردُ
وقال أبو نواس:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا أشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والماء يشرق بالزلال الباردِ
وقال أبن الضرير النهرواني:
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعدِ
كم دخلت لقمةٌ حشى شرهٍ ... فأخرجت روحه من الجسدِ
وقال الوزير المهلبي في غلام قدمه معز الدولة على سرية من أبيات:
جعلوه قائد عسكرٍ: ... ضاع الرعيل ومن يقوده
وقال أبو الفتح أبن جني النحوي وقيل أبو منصور الديلمي:
صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نيةٍ فاسدة
فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة
وقال الإمام السهروردي لمّا ضعف وكبر:
يا رب لا تحيني إلى زمنٍ ... أكون فيه كلأ على أحدِ
خذني قبل أن أقول لمن ... ألقاه عند القيام: خذ بيدي!
وقال أبو محمد اليزيدي:
عش بجد ولا يضرنك نوكٌ: ... إنما عيش من ترى بالجدودِ
رب ذي إربةٍ مقل من الما ... لِو ذي عنجهيةٍ مجدودِ
عش بجدٍّ وكن هبنقة القيس ... أو مثل شيبة بن الوليدِ
وسبب قوله ذلك أنه تناظر هو والكسائي في مجلس المهدي وكان شيبة بن الوليد حاضرا فتعصب للكسائي وتحامل على اليزيدي فهجاه بذلك والله اعلم. وقال السلامي يصف الدرع:
يا رب سابغة حبتني نعمةً ... كافأتها بالسوء غير منفندِ
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذل لكل مهندِ
وقال الآخر:
أخٌلك ما مودته بمذقٍ ... إذا ما عاد فقر أخيك عادا
سألناه الجزل فما تلكى ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
فعدنا ثم عدنا ثم عدنا ... فأعطى ثم عدت له فجادا
مرارا ما نعود إليه إلاّ ... تبسم ضاحكا وثنى الوسادا
وقال الآخر:
هجرتك لا قلي مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدودِ
كهجر الحائمات الورد لمّا ... رأت أنَّ المنية في الورود
تغيظ نفسها ظلماً وتخشى ... حماماً فهي تنظر من بعدِ
تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بألحاظ الورودِ
وقال أبو نواس:
ليس من الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحدِ
وهذا المعنى سبق إليه جرير فقال:
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ ... رأيت الناس كلهم غضابا
إلاّ إنَّ قول أبي نواس أشمل. ومن هذا المعنى قول السلامي:
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهرُ
وأخذه الأرجاني فقال:
قد زرته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
ومنه أيضاً قول أبي الطيب:
هي الغرض الاقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
وبيتا السلامي والارجاني أساس وأفخم مع انتقاض الزمن من بيت أبي الطيب إلاّ إنَّ قوله: وأنت الخلائق إن لم يقصره العرف ويقوم مقام قول أبي نواس في الشمول. وهذا المعنى موجود في بعض أبيات البوصيري في البردة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقول الأفوه الأودي:
بني معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم ... فالجهل منهم معا والغي ميعاد
أضحوا كقيل بن عمرو في عشيرته ... إذ أهلكت بالذي قد قدمت عاد
ويروى: كانوا كمثل لقيم في عشيرته إذ أهلكت............. البيت.
أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا
والبيت لا يبنى إلاّ له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وسكان بلغوا الأمر الذي كادوا
وإن تجمع أقوام ذوو حسب ... اصطاد أمرهم بالرشد مصطاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جالهم سادوا
ونظمه أبن شرف بقوله:
إذا تساوى الورى ضاعوا وحفظهم ... أن يجعلوا فاضلا منهم ومفضولا
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد
ونظمه أبن شرف بقوله:
فإن هم سودوا جهالهم هلكوا ... هلك الدليل إذا ما ضل مدلولا
وقد علمت إنَّ ما يطابق آخر شطر البيت قبله:
إذا تولى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم فازدادوا
أمارة الغني أن تلقى الجميع لدى ... الابرام للأمر والأذناب اكتاد
وبعده:
حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا ... فهم صلاح لمرتاد وإرشاد
فسوف أجعل بعد الأرض دونكم ... وإن دنت رحم منكم وميلاد
إنَّ النجاة إذا ما كنت في تفر ... من لجة الغم أبعاد فأبعاد
والخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلما زاد
وقال بشار:
فخير منك ما لا خير فيه ... وخير من زيارتكم قعودي
وسبب قوله ذلك إنّه تعشق امرأة فراسها مرارا. فلما ألح عليها شكته إلى زوجها فقال لها: أجيبيه وعديه أن يأتي هنا فوجهت إليه فجاء وزوجها معها ويشار لا يشعر فجعلا يتحدثان ثم قال لها بشار: ما اسمك بأبي أنت؟ فقالت: أمامة. فقال:
أمامة قد وصفت لنا بحسن ... وإنا نراك فالمسينا
فأخذت يده ووضعتها على أير زوجها وقد أنعط من حسن ما سمع من حديثهما. ففزع ووثب قائما وقال:
علي ألية ما دمت حيا ... أمسك طائعا إلاّ بعود
ولا اهدي لأرض أنت فيها ... سلام الله إلاّ من بعيد
طلبت غنيمة فوضعت كفي ... على أير أشد من الحديد
فخير منك............... البيت.
ومثل هذا البيت في المعنى قول طرفة:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور
يشاركنا لنا رخلان فيها ... وتعلوها الكباش فما تنور
يقول: ليت لنا بدل هذا الملك وهو عمرو بن هند رغوثا أي شاة ترضع من الزمرات أي القليلات الصوف وضرتها أي لحم ضرعها مركنة مجتمعة ويعني إنّها قليلة الصوف صغيرة الجسم ومع ذلك يرضعها رخلان أي ولدان لها وهي هزيلة تعلوها الكباش للسفاد فما تنور أي ما تستطيع أن تنفر لهزلها. ومعلوم أنها إذا كانت على هذه الأوصاف لم يكن بها خير من صوف ولا لبن ولا لحم ومع ذلك فهي خير لنا من هذا الملك. وهذا الشعر كان سبب قتل عمرو بن هند طرفة، وسنشرح قصته بعد إن شاء الله تعالى. وقال عبيد بن الأبرص:
لأعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي!
وهو مثل سائر يضرب للرجل يضيع حق أخيه في حياته ثم يبكيه بعد الموت.
يروى عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في بعض أسفاره فإذا بركب على الطريق فقال: ما وراءك؟ قال: أمر جليل. قال: ويحك ما هو؟ قال: مات خالد بن الوليد! فاسترجع عمر استرجاعاً طويلا فقالت له: يا أمير المؤمنين:
ألا أراك بعيد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي؟
فقال: يا طلحة لا تؤنبني! وقال من شعراء الحماسة عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
ليس الجمال بمئزرٍ ... فاعلم وإن رديت بردا!
إنَّ الجمال معادنٌ ... ومناقبٌ أورثن مجدا
ومنها:
كل امرئٍ يجري إلى ... يوم الهياج بما استعدا
ومنها:
كم من أخٍ لي ماجدٍ ... بوأته بيدي لحدا
ما إن جزعت ولا هلعت ... ولا يرد بكاي زندا
ألبسته أثوابه ... وخلقت يوم خلقت جلدا
أغني غناء الميتين ... أعد للأعداء عدا
ذهب الذين أحبهم ... وبقي مثل السيف فردا
وقال العباس بن مرداس السلمي:
إذا طالت النجوى بغير أولى النهى ... أضاعت وأصغت خد من هو فاردُ
فحارب فإنَّ مولاك حارد نصره ... ففي السيف مولى نصره لا يحارد
الفارد: المنفرد؛ وحارد نصره: قل من قولك: حاردت الإبل إذا قل درها.
وقال العباب العجلي:
لعل الذي قاد النوى أنيردها ... إلينا وقد يدني البعيد من البعد
وعل النوى في الدار تجمع بيننا ... وهل يجمع السيفان ويحكفي غمد؟
ومنها:
فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابيةٍ صلدِ
كمرضعةً أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصدِ!
وقال عقيل بن علفة المري:
وأبغض من وضعت إلي فيه ... لساني معشر عنهم أذودُ
ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم شهودُ
ولا ملق لذي الودعات سوطي ... ألاعبه وريبته أريدُ
ولست بصادر عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود
العير: الحمار؛ والتغمير: أن يشرب دون ري. يقول: لست بخارج من بيت جاري مريبا ألتفت وأتحير خشية أن أرى كالعير المزعج عن الماء قبل أن يروي أوّ لا أخرج متلفتا عاملا على العود إلى الريبة مرة أخرى كالعير المتلفت إلى الماء لبقاء العطش. وقال قيس بن كلثوم:
قد يخطم الفحل قسراً بعد عزته ... وقد يرد على مكروهه الأسد
الخطم: أن يشد على البعير خطامه فيملك بذلك. وقال تأبط شرا:
وإنك لو أصلحت ما أنت مفسدٌ ... توددت الأقصى الذي تتوددُ
وكان لك أبن العم يحمي ذمامه ... ويمنعه حين الفرائص ترعد
أخوك الذي إن تدعه لملمة ... يجبك لها والمستعدون رقدُ
وقال الفرزدق:
وفي الأرض عن ذي الجود منأى ومبعدٌ ... وكل بلاد أوطنت كبلادِ
وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن خلفنا حفير زياد؟
وقال غسان بن وعلة:
إذا كنت في سعد وأمك منهم ... غريبا فلا يغررك خالك من سعدِ
فإنَّ أبن أخت القوم مصغى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأبٍ جلدِ
وقال شبيل الفزاري:
وما عن ذلةٍ غلبوا ولكن ... كذلك الأسد تفرسها الأسود
وقال دريد بن الصمة:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد
وكان الأصمعي يقول: هذا أحسن بيت قالته العرب! ومنها:
وهون وجدي إنما هو فارط ... أمامي وأني هامة اليوم أو غد
وقال عبد الله بن ثعلبة:
لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
وما إن يزال رسم دار قد أخلقت ... وعهد لميت بالفناء جديد
فهم جيرة الأحياء أما محلهم ... فدان وأما الملتقى فبعيد
وقال الآخر في أبن له:
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
وكيف يلام محزون ... كبير فاته ولده؟
وقال رجل من خثعم:
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
وهذا مثل مشهور. روي أنَّ حارثة بن الغداني خرج ومعه كعب مولاه. فجعل لا يمر بمجلس من بني تميم إلاّ قالوا: مرحبا بسيدنا! فقال كعب: ما سمعت قط كلاما أقر لعيني من هذا! فقال حارثة: ما سمعت كلاما أكره إلي منه! وتمثل بالبيت.
ويروى أيضاً أنَّ أمة مرت بابن جريج أحد علماء المدينة وهو يصلي وقد خط خطا بين يديه. فقالت: وا عجبا لهذا الشيخ وجهله بالسنة! فأشار إليها أن قفي! فلما أن قضى صلاته قال: ما رأيت من جهلي؟ فقالت: إنك تخط خطا تصلي عليه وقد حدثتني مولاتي عن أمها عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إنّه قال: الخط الباطل لأن العبد إذا كبر تكبيرة الاحرام سدت ما بين السماء والأرض. فسألها أن تقفوه لمولاتها. ففعلت فحدثته بذلك وقالت: أتجهل وأنت من علماء المدينة؟ فقال عند ذلك: خلت الديار فسدت غير مسود.......البيت وقال الآخر:
إنَّ المساءة للمسرة موعد ... أختان رهن للعشية أو غد
فإذا سمعت بهالك فيتقنن ... إنَّ السبيل سبيله فتزود
وقال رجل من بني قريع:
متى ما ير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا: عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاط قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد
وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
وقال المقنع الكندي:
يعاتبني في الدين قومي وإنّما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
ألم ير قومي كيف أوسر مرة ... وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا
فما زادني الاقتدار منهم تقربا ... ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطلقوا لها سدا
ومنها:
وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا
أراهم إلى نصري بطاء وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيت لهم شدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن يهدوموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
وإن رجزوا طيرا بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضعيف ما دام نازلا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وقال محمّد بن أبي شحاذ الضبي:
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد
إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمة ورواعد
إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيبا كما استتلى الجنيبة قائد
وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثا وواراك لاحد
إذا أنت لم تترك طعاما تحبه ... ولا مجلس تدعى إليه الولائد
تجللت عارا لا يزال يشبه ... سباب الرجال نثرهم والقصائد
وقال أعرابي قتل أخوه ابنا له فقرب إليه ليقتنص منه فألقى السيف من يده وقال:
أقول للنفس تأساء وتعزية: ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه: ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وقال أحد بني فقعس:
وذوي ضباب مظهرين عداوة ... قرحى القلوب معاودي الأفناد
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصديق أعادي
كيما أعدهم لأبعد منهم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد
الضباب: جمع ضب هو الحقد.
وقال الآخر:
تمنى لي الموت المعجل خالد ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده
وقال الآخر:
وانك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد؟
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد
وفي كثرة الأيدي على الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود
وقال شبيب بن البرصاء:
إذا المرء أعراه الصديق بدا له ... بأرض الأعادي بعض ألوانه الربد
أعراه: انفرد به وأفضى به العراء. يقول: إذا أنفرد الرجل بمن يعتده صديقا وصار معه في بلاد العدو فاحتاج إلى نصرته ومشورته أنكشف له أمره وبان له حينئذ أنه عدو له أم صديق. والربد الغبر المظلمة. ضربه مثلا لمّا يخى من الصداقة والعداوة. وقال الحسن بن المطير:
كنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
خليلي ما بالعيش عتب لو أننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها
وقال الآخر:
هل الحب إلاّ زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد؟
غيره:
وما كل ما في النفس للناس مظهر ... ولا كل مالا تستطيع تذود
وقال آخر من الحارث بن كعب:
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلاّ فقد عشنا بها زمنا رغدا
وقال حطائط أخو الأسود بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقال يزيد الحارثي:
وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته ... لولا الثناء كأنه لم يولد
وقال آخر وتروى لقيس بن عاصم رضي الله عنه:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد؟
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وإني بعد الضيف ما دمت ثاويا ... وما في إلاّ تلك من شيمة العبد
وقال الآخر:
ونبئت ركبان الطريق تناذروا ... عقيلا إذا حلوا الذناب فصر خدا
فتى يجعل المحض الصريح لبطنه ... شعارا ويقري الضيف عضبا مهندا
وقال الآخر:
وأنا لنجفو الضيف من غير علة ... مخافة أن يغري بنا فيعود
غري: كلف.
وقال الأسود بن يعفر:
ولقد علمت لو إنَّ علمي نافع ... إنَّ السبيل سبيل ذي الأعواد
ماذا أؤمل بعد آل محرق؟ ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذو الشرفات من سنداد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأكرم غنية ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاذ
وتقدم بعض هذا الشعر. وذو الأعواد رجل أسمه غوي بن سلامة أو سلامة بن غوي وقيل غير ذلك. وكان له خراج على مضر. فلما شاخ وضعف كان يحمل على سرير ويطاف به على مياه العرب فيجيبها. وقيل هو جد لأكثم بن صيفي الحكيم المعروف. وكان أعز أهل زمانه فكان لا يأتي سريره خائف إلاّ أمن وجائع إلاّ شبع. ومثل هذا الشعر ما روي إنّه وجد في حفير رجل عليه خفان وعند رأسه لوح فيه مكتوب: أنا عبد المسيح بن حيان بن نفيلة:
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أخضع لمعضلة كؤود
وكدت أنال بالشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
ودخل أرطأة بن سهيل على عبد الملك: كيف حالك؟ وكان قد أسن فقال: ضعف حالي وقل مالي وكثر مني ما كنت أحب أن يقل وقل مني ما كنت أحب أن يكثر قال: فكيف أنت في شعرك؟ قال: والله ما أغضب ولا أطرب ولا أرهب. وما الشعر إلاّ من نتائج هذه على إنني القائل:
رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبقى المية حين تأتي ... على نفس أبن آدم من مزيد
وأعلم أنها عمال قليل ... ستوفي نذراها بأبي الوليد
فارتاع عبد الملك ثم قال: بل توفي نذرها بك ويلك مالي ولك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا ترع والله ما عنيت إلاّ نفسي فقال: أما والله لتلمن بي وأبو الوليد كنية لعبد الملك وكنية لأرطأ أيضاً. وقال الآخر:
لنا عز ومرمانا قريب ... ومولى لا يدب مع القراد
وقوله لا يدب مع القراد أشار به إلى رجل من العرب كان يخرج ومعه شنة فيها قردان فيشدهما في ذنب بعير من الإبل فإذا قرصته القردان نفر فنفرت الإبل لقعقة الشن. فإذا نفرت أستل منها بعيرا فذهب به.
وقال الآخر:
ستبكي المخاض الجرب إن مات هيثم ... وكل البواكي غيرهن جمود
يقول إنّه كان بخيلا يستبقينه وينحرهن: فهن يبكين عليه إن مات لمّا أحسن إليهن ولا يبكي عليه أحد من الناس لعدم خيره وإحسانه. وهذا من أقبح الهجو غير أنَّ في قوله جمود مغمزا. وضد هذا من المدح قول الآخر:
قتيلان لا تبكي المخاض عليهما ... إذا شعبت من قرمل وأفان
والأفاني جمع افانية والأفانية والقرمل نبتان يرعيان. وقال الآخر:
إذا جاوزت من ذات عرق ثنية ... فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد
ونحوه قول الفرزدق السابق:
وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد؟
وتقدم تفسير رعد وبرق بما أغنى عن إعادته. ونحوه قال الآخر:
يا جل ما بعدت عليك بلدنا ... فابرق بأرضك ما بدا لك وأرعد
وقال الآخر:
ما قام عمرو في الولاية ... قائما حتى قعد
وسبب هذا أنَّ بعض الوزراء قلد أبن حجاج ولاة فخرج إليها يوم الخميس وتبعه عزله يوم الأحد فقال فيه:
يا من إذا نظر الهلال ... إلى محاسنه سجد
وإذا رأته الشمس كادت ... أن تموت من الحسد
يوم الخميس بعثتني ... وصرفتني يوم الأحد
والناس قد غنوا علي ... كما خرجت من البلد
ما قام عمرو........ البيت وقال جميل:
فأقسم طرفي بينهن فيسوى ... وفي الصدر بينهن بعيد
وقال أيضاً:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيى إذا فارقتها فيعود
وهذان البيتان من قصيدة لجميل يقول فيها:
إلاّ ليت أيام الصفاء جديد ... ودهراً تولى يا بثين يعود
فتغنى كما كنا نكون وأنتم ... صديق وإذ ما تبذلين زهيد!
وما أنس من أشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد؟
ولا قولها: لولا العيون التي ترى ... أتيتك فاعذرني فدتك جدود!
خليلي ما أخفي من الوجد ظاهر ... ودمعي بما أخفي الغداة شهيد
ألا قد رأى الله أنَّ رب عبرةٍ ... إذا الدار شطت بيننا ستزيد
إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت: ثابت ويزيد
وإنَّ قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا ... ولا حبها فيما يبيد يبيد،
جزتك الجوازي يا بثين ملامة ... إذا ما خليل بان وهو حميد
وقلت لها: بيني وبينك فأعلمي ... من الله ميثاق له وعهود
وقد كان حبيكم طريفا وتالداً ... وما الحب إلاّ طارف وتليد
وإنَّ عروض الوصل بيني وبينها ... وإنَّ سهلته بالمنى لصعود
فأفنيت عيشي بانتظاري نوالها ... وأبلت بذاك الدهر وهو جديد
فليت وشاة الناس بيني وبينها ... يدوف لهم سما طماطم سود
وليت لهم في كل ممسىً وشارقٍ ... تصاعق أكباد لهم وقيود!
ويحسب نسوان من الجهل أنني ... إذا جئت إياهن كنت أريد
وبعده:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادِ القرى إني إذا لسعيد!
وهل أهبطن أرضا تظل رياحها ... لها بالثنايا القاويات وئيد
وهل ألقين سعدي من الدهر مرة ... ومارث من حبل الصفاء جديد؟
وهل تلتقي الأهواء من بعد يأسةٍ ... وقد تطلب الحاجات وهي بعيد؟
وهل أزجرن حرفا علاة شملة ... بخرق تباريها سواهم سود
على ظهر مرهوب كأن ستوره ... إذا جاز هلاك الطريق رقود
سبتني بعيني جؤذر وسط ربربٍ ... وصدر كفاثور اللجين وجيد
تزيف كما زافت إلى سلفاتها ... مباهية طي الوشاح ميود
إذا جئتها يوما من الدهر زائراً ... تعرض منقوصا اليدين صدود
يصد ويغضي عن هواي ويجتني ... ذنوبا علينا إنّه لعنود
فأصرمها خوفا كأني مجانب ... ويغفل عنا مرة فنعود
فمن يعط في الدنيا قرينا كمثلها ... فذاك في عيش الحياة رشيد!
وبعده:
يقولون: جاهد يا جميل بغزوة! ... وأي جهاد غيرهن أريد؟
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد
فمن كان في حبي بثينة يمتري ... فبرقاء ذي ضالٍ علي شهيد
ألم تعلمي يا أم ذي الودع أنني ... أضاحك ذكراكم وأنت صلود؟
وقال الآخر:
إذا كنت تهوي الحمد والمجد مولعا ... بأفعال ذي غي فلست براشد
ولست وإنَّ أغيى أباك مجادة ... إذا لم ترم ما أسلفاه بماجد
وقوله: اباك، أي أبواك، فثني لفظ الأب من غير إنَّ يرد لأمه. وقال الآخر:
شريت برداً ولولا ما تكنفني ... من الحوادث ما فارقته أبداً!
وقال الآخر:
أتعجب أن رأيت علي دنيا؟
وقال الأشهب بن رحيلة:
أسود شرى لاقت أسود خيفة ... تساقت على حرد دماء الأساود
وقال الآخر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند!
وقال أعرابي في السجن:
أيا واليي سجن اليمامة أشرفا ... بي القصر أنظر نظرة هل أري ونجدا!
فقال اليمانيان لمّا تبينا ... سوابق دمع ما ملكت لها رداً:
أمن أجل أعرابية ذات بردة ... تبكي على نجد وتبلى كذا وجدا؟
لعمري لأعرابية في عباءةٍ ... تحل دماثا من سوقية أو فردا
أحب إلى القلب الذي لج في الهوى ... من اللأبسات الريط يظهرن كيدا
وقال الآخر، ويقال الشافعي، رضي الله عنه:
تمنى رجال أنَّ أموت فأن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحد!
يقال: لست في هذا الأمر بأوحد، أي لا أخص به: وقال الآخر، ويقال هو هاتف سمع لمّا ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه:
من الآن قد طابت وقر قرارها ... على عمد المهدي قام عمودها
وقال يزيد بن الصقيل العقيلي، وكان يسرق الإبل ثم تاب:
ألا قل لأرباب المخائض أهملوا ... فقد تاب عما تعلمون يزيد
وإنَّ أمرءاً ينجو من النار بعدما ... تزود من أعمالها لسعيد!
وتقدم هذا الثاني. والإهمال ترك الإبل بلا راع. وقال الآخر:
تمنيتم مائتي فارسٍ ... فردكم فارس واحد
وقبلها:
فليت لها بارتباط الخيول ... ضأناً لها حالب قاعد!
ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد؟
وغامد أبو قبيلة، وهو غامد بين نصر بن الأزد بن الغوث، فهاجم هذا الشاعر. وقال حاتم:
وإنَّ الكريم من تلفت حوله ... وإنَّ اللئيم دائم الطرف أقود
وقال نبهان العبشمي:
يقر بعيني إنَّ أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاود
وأنَّ أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقد مل السرى كل واخد
وأخلط أحشائي ببرد ترابه ... وإنَّ كان مخلوطا بسم الأساود!
والعقدات واحد العقدة - بكسر القاف وفتحها وهو ما تراكم من الرمل وانعقد؛ والأبرق حجارة يخالطها رمل أو طين؛ والنتقاود: المنقاد المستقيم؛ الأساود جمع أسود، وهو الأسود السالخ. وقال أبو الحسن بن أبي الطيب:
لا تنكري يا عز إنَّ ذل الفتى ... ذو الأصل واستعلى خسيس المتحد
إنَّ البزاة رؤوسهن عواطل ... والتاج معقود برأس الهدهد
وقال الحارث بن كلدة:
ولقد رأيت معاشرا ... جمعوا لهم مالا وولدا
وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
الناس وجهالهم الحائرين. وقوله: لا تسمع الآذان رعدا، أي لا تسمع آذانهم صوت الرعد لصممهم، فأقام الألف واللام مقام ضمير وقال الآخر:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعالنا إنَّ الثناء هو الخلد!
ومثله قول الآخر:
فإذا باغتم أرضكم فتحدثوا ... ومن الحديث مثالب وخلود!
وتقدم ذكر هذا المعنى. وقال: أبن اللبانة يمدح المعتمد:
لقد ضم أمر الملك حتى كأنه ... نطاق بخصر أو سوار على زند
وحسن طعم العيش حتى أعاده ... ألذ من الإغفاء في عقب السهد
وحسب الليالي إنّها في زمانه ... بمنزله الخيلان في صفحة الخد
توقد عن نارين للحرب والقرى ... وقام على طودين للحلم والمجد
وجاءت به الأيام تاجر سؤددٍ ... يبيع نفيسات المواهب بالحمد
يغيث في محل يعينك في ردى ... يروعك في درع يروق في برد
جمال وإجمال وسبق وصولة ... كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد!
وقال أيضاً:
إليه وإلاّ قيودا قدم السرى ... وفيه وإلاّ أخرسوا ألسن الحمد
وعنه أفيضوا، إنّه مشعر الهدى ... وحوليه طوفوا: إنّه كعبة القصد
وألغوا حديث البحر عند حديثه: ... فكم بين ذي جزر وكم بين ذي مد!
وقال الآخر:
قلدتني منك الجميل قلائد ... ورحمتي حتى سبتك والدا
والله لو جاز السجود لمحسنٍ ... ما كنت إلاّ راكعا لك ساجدا!
وقال أبو جعفر البطروني:
وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد
ثمار أيادٍ دانيات قطوفها ... لأغصانها ظل علينا ممدد
ترى جاريا ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري لا تزال تغرد
وقال أبن اللبانة أيضاً:
وهو صبح وربيع وحيا ... ويجتلى أو يجتنى أو يجتدى
وهو طود وشهاب ولظى ... مارسا أو ماسرى أو ماعدا
وقال بكر بن النطاح:
ملأت يدي من الدنيا مراراً ... فما طمع العواذل في قيادي
وما وجبت علي زكاة مالٍ ... وهل تجب الزكاة على الجواد؟
وقال الآخر:
بفعالي عرفت لا بمقالي ... وبذاتي شرفت لا بجدود
إنَّ رأيي ورأيت بلغاني ... غايتي هذه بحكم السعود
وقال أبن الخطيب:
تعجلت وخط الشيب في زمن الصبا ... لخوضي غمار الهم في طلب المجد
فمهما رأيتهم شيبة فوق مفرقي ... فلا تنكروها إنّها شيبة الحمد!
وقال أبن الحداد، وللشعر حكاية:
شقيقك غيب في لحده ... وتطلع يا بدر من بعده
فهلا خسفت فكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده؟
وقال آخر في التعزية:
لابد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
كن المعزي لا المعزى به ... إنَّ كان لابد من الواحد!
وقال الوزير المهلبي:
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
أيبقى جميعا شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد؟
وقال الآخر:
دهى الله مصرا وسكانها ... وفتت أكبادهم وبالحسد!
متى يرتجي مفلس عندهم ... غنى وعلى كل فلس أسد؟
وقال الآخر:
ما للمعيل وللسفار وإنما ... يجلى بوصل البيد من هو فارد
فالشمس تجتاب السماء فريدة ... وأبو بنات النعش فيها راكد
وقال أبن سكرة:
قيل: ما أعددت للبرد ... وقد جاء بشده؟
قلت: دراعة عري ... تحتها جبة رعده
وقال الآخر:
بين اللثام وصدغه المعقود ... خمران: من ريق ومن عنقود
يلوى على زرد العذار دلاله: ... كم فتنةٍ بين اللوى وزرود!
وقال الآخر:
أهلا بطيفك زائراً أو عائد ... تفديك نفسي غائبا أو شاهدا!
يا من على طيف الخيال أحالني ... أتظن طرفي مثل طرفك راقدا؟
ما نمت لكن الخيال يلم بي ... فيجله طرفي فيطرق ساجداً
وقال الراضي بن عباد:
مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... وأوقدوا نار قلبي أي إيقاد
لا غزو إنَّ زاد في قلبي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصاد!
وقال الآخر:
قالوا: خسرت القلب حين علقته ... وربحت فيه شماتة الحساد
فأجابهم: لا تعذلوني إنني ... صانعته عن مهجتي بفؤاد!
وقال بعض المشارقة:
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاحسبوا ذابذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود؟
وقال أبو العباس بن الفياض:
قم اسقني بين الناي والعود ... ولا تبع طيب مفقود بموجود
نحن الشهود وصوت العود خاطبنا ... فزوج أبن غمام بنت عنقود!
وقال أبو البركات في غرناطة:
رعى الله من غرناطة متبوءاً ... يسر كئيبا أو يجير طريدا!
تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالبرد عدن جليدا
هي الثغر صان الله من أهله به ... وما خير ثغر لا يكون برودا
وقال أبن الحجاج في صاحب وليمة أبطأ بالطعام فيها.
يا جائيا في داره ذاهبا ... لغير معنى لا ولا فائدة
قد جن أصحابك من جوعهم ... فأقراً عليهم سورة المائدة!
وتقدم بعضه. وقال الآخر:
مال أبن دارة دونه لعفاته ... خرط القتاد والتماس الفرقد
مال لزوم الجيمع يمنع صرفه ... في راحةٍ مثل المنادى المفرد
وقال الآخر:
فأكثر من الإخوان للدهر عدة: ... فكثرة در العقد من شرف العقد
وعظم صغير القوم وأبدا بحقه: ... فمن خنصري كفيك تبدأ في العد!
وقال الآخر:
ألا! إنّه كلنا بائد ... وأي بني آدم خالد؟
وبدؤهم كان من وبهم ... وكل إلى ربه عائد
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على إنّه واحد
وقال البستاني:
أبوك حوى العليا وأنت مبرز ... عليه إذا نازعته قصب المجد
وللخمر معنى ليس في الكرم مثله ... وللنار نور ليس يوجد في الزند
وقال أبو القاسم الاصبهاني:
أصبحت صبا دنفا ... بين عناء وكمد
أعوذ من شر الهوى ... بقل هو الله أحد!
وقال ابن الجهم:
انفس حرة ونحن عبيد ... إنَّ رق الهوى لرق شديد
لي حبيب نأى الهجر عني ... وأشد الهوى القريب البعيد
وقال الآخر:
وكم ليلة بت من حبكم ... تطول على طرفي الساهد
كأن نجوم الدجى في الدجى ... صوار تفرقن عن صائد
وقال أبن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلاّ فما يبكه منها وإنّها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد؟
وقال الآخر في التورية:
تقول سليمى إذ رأت شيب لمتي: ... لقد حال من ذلك الشباب سواده
وما تنر الحسناء من خط كاتب ... إذا ابيض من طول الكتاب مداده
وقال كثير:
فإنَّ تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد!
وكل خليل زارني فهو قائل: ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد!
وتقدم أنَّ بن عبد الملك تمثل به على قبر جاريته حبابة لمّا ماتت: وقال أبو جعفر المنصور العباسي، وله قصة ستأتي في اللام:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة: ... فإنَّ فساد الرأي إنَّ يترددا
ولا تمهل الأعداء يوما بقدرة ... وحاذرهم أنَّ يملكوا مثلها غدا!
وسبب ذلك أنَّ جارية له أهدت إليه تفاحة بعد إنَّ طيبتها، وكتبت عليها:
هدية مني إلى المهدي ... تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبت ... كأنها من جنة الخلد!
وقال عروة بن أذينة، رضي الله عنه:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم ابترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهرة ... فمن لنار على الأحشاء تتقد؟
وقال الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فيما زعموا:
خذوا بدمي ذلك الغزال فانه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه أنني أنا عبيده ... وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد!
وقال القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي، رحمه الله:
ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت: تعالوا فاطلبوا اللص بالحد!
فقلت لها: إني لثمتك غاضبا ... وما حكموا في غاضب بسوى الرد
خذيها وكفي لي عن إثم ظلامتي ... وإنَّ أنتِ لم ترضي فألفا من العد
فقالت: قصاص يشهد العقل إنّه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد
فباتت يميني وهي هيمان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
وقالت: ألم أخبر بأنك زاهد؟ ... فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
وقال مسكين الدارمي:
قل للملحة في الخمار الأسود: ... ماذا فعلت بزاهد متعبد؟
قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى قعدت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تفتنيه بحق جاه محمد!
وزعموا إنّه كان مشتهرا بالمجون، فنسك ولزم المسجد، وصار من العباد. فورد بعض تجار العراق على المدينة، على سكانها الصلاة والسلام، بسلة فيها خمر مختلفة الألوان. فباعها جميعا إلاّ الأسود من الخمر. فتحير في أمرها وجاء نحو المسجد وسلأل عن من به من أهل الخير. فدل على مسكن الدارمي المذكور. فجاء وشكا إليه أمره وسأله الدعاء بتيسير بيع اللون فدفعها له وقال له: غن بها حيثما أمكنك فإنّها لى! فذهب يغني بها في سكك المدينة فظن الناس إنّه ترك التنسك وعاد إلى المجون ولامه أصحابه في ذلك فقال: ولتعلمن نبأه بعد حين! وشاع في المدينه أنَّ الدارمي تعشق صاحبة الخمار الأسود فبيعت بذلك خمر التاجر وعاد الدارمي إلى نسكه.
وهو القائل:
وسميت مسكيناً وما بي حاجةٌ ... وإني لمسكين إلى الله راغبُ
وإني امرؤ لا اسأل الناس ما لهم ... بشعر ولا تعيي على المكاسبُ
وينسب إلى القاضي التنوخي في معارضة أبيات الخمار المذكورة:
قل للمليحة في الخمار المذهب: ... أفسدت نسك أخي التقي المترهبِ
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب!
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن نهجيهما من مذهبِ
وإذا أتت عين اتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي!
وقال الفرزدق:
وخير الشعر أشرفه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيدُ
وسبب قوله ذلك إنّه اجتمع مع نصيب الشاعر الأسدي في مجلس سليمان بن عبد المكل فقال الفرزدق شعرا يفخر فيه بأبيه ومنه:
وركبٍ كأن الريح تطلب عندهم ... لهاترةً من جذبها بالعصائبِ
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائبِ
إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالبِ!
فأعرض سليمان كالمغضب ففطن له نصيب فقال له: أيأذن أمير المؤمنين أن أقول؟ قال: قل! فقال نصيب:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قاربُ
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالبُ
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ
وقالوا: تركناه وفي كل ليلةٍ ... يطوف به من طالب العرف راغبُ
فلو كان فوق الناس حيٌّ فعاله ... كفعلك أو في الفضل منك يقاربُ
لقلنا له شبهٌ ولكن تعذرت ... سواك على المستشفعين المطالبُ
هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل تسبه البدر المنير الكواكبُ
فطرب سليمان وأمر لنصيب بعسرة آلاف. ثم التفت إلى الفرزدق فقال: كيف ترى يا أبا فراس؟ فقال: هو أشعر أهل جلدته. فقال سليمان: وأهل جلدتك! فغضب الفرزدق وقال:
وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد!
وعن دعبل قال: نودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا فتى يجر رمحه بين يدي فقال: يا دعبل اسمع مني! وأنشد:
أنا في أمري رشاد ... بين حب وجهادِ
بدني يغزو عدوي ... والهوى يغزو فؤادي!
ثم قال: كيف ترى؟ قلت: جيد والله! فقال: ما خرجت إلاّ هاربا من الحب! ثم قاتل حتى قتل.
وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تخاطب زوجها عمر بن عمر بن عبد العزيز حيث اشتغل بأمور الخلافة ولم يتفرغ لها:
ألا يا أيها الملك الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي
أراك وسعت كل الناس عدلاً ... وجرت علي من بين العبادِ
وأعطيت الرعية كل فضل ... وما أعطيتني غير السهادِ
وقال الآخر:
نحن قوم تذيبنا الأعين النجل ... على أننا نذيب الحديدا
نقتل الأسد ثم تقتلنا البيض ... المصروفات أوجهاً وخدودا
وتراني لدى الكريمة أحراراً ... وفي السلم للحسان عبيدا
وزعموا أنَّ العلوي قائل هذا الشعر حاصر قلعة حتى كاد يقتحمها. وكانت فيها امرأة ذات حسن وجمال فقالت لأهلها: أنا أكفيكم أمره! فتبرقعت وخرجت نحو العسكر وقالت: أبلغوني إلى الأمير! فأبلغوها إليه فقالت: أنت القائل:
نحن قوم تذيبنا الأعين
فقال: نعم! فنزعت البرقع عن وجهها وقالت: أحسنا ترى أم قبيحاً؟ فقال: والله ما أرى إلاّ حسنا! فقالت: ما حق المولى على عبده؟ فقال: السمع والطاعة. فقالت: فأرحل عنا وانصرف راشداً قال: نعم: وأمر بالرحيل. فقال له أهل العسكر: إنَّ المدينة بأيدينا. فقال: لا سبيل إلى الإقامة ساعة واحدة. ثم خطب تلك المرأة وتزوجها، فكانت عنده أحظى نسائه.
وقال الآخر في الثقلاء:
إلمام كل ثقيل قد أضر بنا ... نروم نقصهم والشيء يزداد
ومن يخف علينا لا يلم بنا ... وللثقيل على الساعات ترداد
وقال الآخر:
إذا هز الكريم يزيد خيراً ... وإنَّ هو اللئيم فلا يزيد
وروي أنَّ أعرابيا وقف على مروان بن الحكم، وهو يفرض العطاء بالمدينة، فقال له: أفرض لي! فقال: قد طوي الكتاب! فقال له الأعرابي: أما علمت إني القائل: إذا هز الكريم؟ فقال: نشدتك الله، وأنت القائل له؟ قال: نعم! فقال مروان: افرضوا عليه ما يرضيه! وقال الآخر:
لا يوجد الخير إلاّ في معادنه ... والشر حيث طلبت الشر موجود
ويحكى عن جعفر بن يحيى إنّه في بعض أسفاره عرض عليه مماليك رجل جفاه السلطان، وفيهم غلام جميل. قال: فقلت له: ما اسمك؟ قال: ماهر. قلت وما صنعتك؟ قال: الأدب والشعر والغناء، وما شئت من بعد. فسألت عن ثمنه فقيل خمسمائة دينار على الضرورة. فوزنت ثمنه وسألته إنَّ يسمعني شيئاً من غنائه. فأخذ العود واندفع يغني:
حملتم جبال الحب فوقي وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها الدهر يذرف؟
فأطربني غناؤه وشجاني، فأجرته وخلعت عليه، وأمرته بمعادلتي. فلما أجزت منزل مولاه بمقدار ميل أنشأ يقول:
وما كنت أخشى معبدا أنَّ يبيعني ... بشيء ولو أضحت أنامله صفراً
أخوهم ومولاهم وحامل سيرهم ... ومن قد ثوى فيهم وعاشرهم دهرا
أشوق ولمّا يمض لي غير ساعةٍ ... فكيف إذا سار المطي بنا شهرا؟
فقلت له: يا غلام، أتعرف منزل مولاك من هنا؟ فقال: وهل تخفى معالم الحب؟ فقالت: أذهب فأنت حر لوجه الله! ووهبت له ألف دينار. فقال لي زميلي: أمثل هذا يعتق؟ فقلت له ويحك! وهل مثله يملك؟ فأنطلق وهو يقول:
لا يوجد الخير إلاّ في معادنه
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد؟
وكان سبب ذلك أنَّ إبراهيم بن المهدي اقترض من التجار أموالا كثيرة ببغداد. فيها لعبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار. فلما لم يتم لها أمر الخلافة لوى التجار أموالهم. فصنع محمد أبن عبد الملك قصيدة يخاطب المأمون، وهذا صغير، منها:
تذكر أمير المؤمنين قيامة ... بإيمائه في الهزل منه وفي الجد
ووالله ما من توبةٍ نزعت به ... إليك ولا ميل إليك ولا ود
ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادي به بين السماطين عن بعد؟
وأي امرئ سمى بها قط نفسه
وعرضها على إبراهيم وقال له: إما أنصفت أبي، وإما أنشدتها المأمون! فأذى إلى أبيه ماله دون سائر التجار، واستحلفه على كتمانها، فحلف له، وهذا من فوائد الشعر. وقال أبن الرومي يمدح النرجس:
للنرجس الفضل المبين وإنَّ أبى ... آبٍ وحاد عن طريقة حائد
وللنرجس احتاز الملاحة كلها ... وله فضائل جمة وفوائد
ومنها:
شتان بين اصنين: هذا موعد ... بتسلب الدنيا وهذا واعد!
وسيأتي تتمة هذا الشعر وما عورض به وما قيل في ذلك، إن شاء الله.
وقال الآخر:
وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ندي
وقال الآخر:
إذا أنت وليت الخؤون أمانة ... فأنك قد أسندتها شر مسند!
وقال الآخر يصف الكتب:
لنا جلساء لا يمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
ويفيدوننا من علمهم علم من مضى ... وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا
فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ... ولا تتقي منهم لسانا ولا يداً
فإنَّ قلت: أموات فلست بكاذب ... وإنَّ قلت: أحياء فلست مفندا!
وقال الآخر:
علي لأخواني رقيب من الصفا ... تبيد الليالي وهو ليس يبيد
يذكرنيهم في مغيب ومشهد ... فسيان منهم غائب وشهيد
وإني لأستحيي أخي أنَّ أبره ... قريبا وأنَّ أجفوه وهو بعيد
وقال الآخر:
رأيت صلاح المرء يصلح حاله ... ويعيدهم داء الفساد إذا فسد
ويعظم في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
وقال الآخر:
أرى صاحب النسوان يسحب أنها ... سواء، وبون بينهن بعيد
فمنهن جنات تفيء ظلالها ... ومنهن نيران لهن وقود!
وقريب من هذا قول الأعرابي:
وإنَّ من النسوان من هي روضة ... تهيج الرياض دونها وتصوح
غيره:
وكل أخس عند الهواينا ملاطف ... ولكنما الأخوان عند الشداد!
غيره:
ما خطب من حرم الإرادة وادعا ... مثل الذي حر الإرادة جاهدا
غيره:
ولقد أصرف الفؤاد عن الشيء ... حياء وحبة في السواد
غيره:
عود لسانك قول الصدق تحظ به ... إنَّ اللسان لمّا عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له ... في الخير والشر فأنظر كيف ترتاد!
وقال أبو الفتح البستي:
تكلم وسدد ما استطعت فإنما ... كلامك حي والسكوت جماد!
فإنَّ لم تجد قولا سديداً تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد
وقال أبن الرومي. وقد سمع رجلا يثني عن آخر مبالغا:
إذا ما وصفت أمرءا لامرئٍ ... فلا تغل في وصفه وأقصد
فإنك إنَّ تغل تغل، الظنون ... فيه إلى الآمد الأبعد
غيره:
ألم تر أن الدهر من سوء فعله ... يكدر ما أعطى ويسلب ما أسدى
فمن سره ألا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
غيره:
إنّما الدنيا هبات ... وعوار مستردة
شدة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدة
غيره:
لو إنَّ ما انتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا!
لكنني عالم إني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
غيره:
صل من دنا وتناس من بعدا ... لا تكرهن على الهوى أحدا
قد أكثرت حواء إذ ولدت ... إذا جفا ولد فخذ ولدا!
غيره:
إذا اجتمع الناس في واحدٍس ... وخالقهم في الرضى واحدُ
فقد دل إجماعهم دونه ... على عقله أنه فاسدُ
غيره:
وإخوان اتخذتهم درعاً ... فكانوا ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا: قد صفت منا قلوبٌ ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
وقالوا: قد سعينا لك سعيٍ ... لقد صدقوا ولكن في فسادي!
وقال أبو محمد الحريري:
ولمّا تعامى الدهر وهو أبو الورى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعامت حتى قيل إني أخو عمى ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده!
وله: والشبل في البخر مثل الأسد وله أيضاً:
من ضامه أو ضاره دهره ... فليقصد القاضي في صعده
سماحه أزرى بمن قبله ... وعدله أتعب من بعده
وله أيضاً:
خذها إليك وصيةً ... لم يوصها قبلي أحد
غراء حاويةً خلاصات ... المعاني والزبد
نقحتها تنقيح من ... محض النصيحة واجتهد
واعمل بما مثلته ... عمل اللبيب أخي الرشد
حتى يقول الناس هذا ... الشبل من ذاك الأسد
وقال أبن الساعاتي:
حددت بجفنيها على رشف ريقها ... ومن شرب الصهباء يلزم بالحدِّ
وقال شرف الدين الحموي:
ونحن معاشرٌ نأبى الدنيا ... ونلبس من صوان العرض بردا
نعانق من رماح الخط باناً ... وننشق من سيوف الهند وردا
وقال المتلمس:
إنَّ الهمان حمار الذل يألفه ... والحر ينكره والفيل والأسدُ
ولا يقيم بدار الذل يألفها ... إلاّ الأذلان: عير الحي والوتدُ
هذا على الخسف مربوطٌ برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحدُ
وقال أبن قلاقس:
إنَّ مقام المرء في بيته ... مثل مقام الميت في لحده
فواصل الرحلة نحو الغنى ... فالسيف لا يقطع في غمده
والنار لا يحرق مشبوبها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده
غيره:
قد تعففت وارتضيت بترفيع ... زماني وقلت إني وحدي
لا لأني أنفت مع ذا من الكد ... ية أين الكرام حتى أكدي
وقال أبو دلف:
أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واختيالي على متون الجيادِ
ورسولٌ يأتي بوعد حبيبٍ ... وحبيبٌ يأتي بلا ميعاديِ
وسببه أنه قد قيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا؟ فقال: بيضاء رعبوبة بالشحم مكروبة بالمسك مشبوبة. وسئل الأعشى فقال: صهباء صافية يمزجها ساقية من صوب غادية. وسئل طرفة عن ذلك فقال: مركب وطي وثوبٌ بهي وطعامٌ شهي. قال بعضهم: فحدثت بذلك أبا دلف فقال: أطيب الطيبات. . البيتين وقال: وحدثت بذلك حميدا الطوسي فقال:
فلولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنباً ... كسيد الغضى نبهته المتوردِ
وتقصير يوم الدجن والدجن معجبٌ ... ببهكنةٍ تحت الطرف النعمدِ
قال: وحدثت بذلك الزبير بن عبد الله فقال: ما أدري ما أقول ولكني أقول:
فاقبل من الدهر ما أتاك به ... من قر عيناً بعيشه نفعه
قلت: والأبيات الأربعة التي أنشدها حميد ليست له وإنّما تمثل بها وهي لطرفة بن العبد من قصيدته الدالية المشهورة؛ وكذا البيت الذي أنشده الزبير هو لشاعر قديم وسيأتي ذكره مع غيره في موضعه. وشيع طرفة في ذكر الثلاث جماعة من الفضلاء. فمن ذلك قول عز الدين بن هبة الله المعتزلي معارضا:
لولا ثلاث لم أخف صرعتي ... ليست كما قال فتى العبدِ
أن أنصر التوحيد والعدل في ... كل مكان باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعاً ... بخلوة أحلى من الشهدِ
وإن أتيه الدهر كبراً على ... لئيم " بياض " الخدِّ
لذلك أهوى لا فتاة ولا ... خمراً ولا ذا ميعةٍ نهدِ
وقول الآخر:
لولا ثلاثٌ هن والله من ... أكبر آمالي في الدنيا
حجٌ لبيت الله أرجو به ... أن يقبل التوبة والسعيا
والعلم تحصيلا ونشراً لمّا ... رويت أو سعت الورى ريا
وأهل ود أسأل الله أن ... يمتع بالبقيا إلى اللقيا
ما كنت أخشى الموت أني أتى ... بل لم أكن التذ بالمحيا
وقال اثير الدين:
أما إنه لولا ثلاث أحبها ... تمنيت أني لا أعد من الأحيا
فمنهن صوني النفس عن كل جاهل ... لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا
ومنها رجائي أن أفوز بتوبةٍ ... تكفر لي ذنباً وتنجح لي سعيا
أتترك نصاً للرسول وتقتدي ... بشخصٍ لقد بدلت بالرشد الغيا؟
وقول الصفدي:
لولا ثلاث هن أقصى المنى ... لم أهب الموت الذي يردي
تكميل ذاتي بالعلوم التي ... تنفعني أن صرت في لحدي
والعي في رد الحقوق التي ... أصاحبي نلت بها قصدي
وأن أرى الأعداء في صرعةٍ ... لقيتها في جمعهم وحدي
فبعدها اليوم الذي حم لي ... عندي استوى في القرب والبعدِ
وقولي أنا من هذا الباب:
لولا ثلاث فوائدٍ ترجى لمّا ... أحببت تنفيس الحياة إلى مدا
قربٌ من المولى وعلم نافعٌ ... وأجٌ يؤازرني ويشفع لي غدا
وذكر الجاحظ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشده رجل قول طرفة المذكور فقال: لولا أن أسير في سبيل الله وأضع جبهتي لله وأجالس أقواما ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب الثمار لم أبال أن أكون قد مت. قال: عامر بن عبد الله القيسي: ما آسى من العراق إلاّ على ثلاث: على ظمأ الهواجر وتجاوب المؤذنين وإخوان لي منهم الأسود بن كلثوم. وقال إعرابي:
لولا ثلاث هن عيش الدهر: ... الماء والنوم وأم عمرو
لمّا خشيت من مضيق القبر وقال الآخر:
صنت نفسي عما يليق بمثلي ... وتحصنت بالجفاء الشديدِ
ما يساوي قضاء حقِّ الموالي ... ما يقاس من سوء خلق العبيدِ
وقال البحتري:
ولست ترى شوك القتادة خائفاً ... سموم الرياح الآخذات من الرندِ
ولا كلب محوماً وإن طال عمره ... ألا إنّما الحمى على الأسد الوردِ
غيره:
لقد كسدت سوق الفضائل كلها ... وللهزل أحظى في الزمان من الجدِّ
فلست أرى إلاّ كريماً يفر من ... لئيم وحراً يشتكي الضيم من عبدِ
غيره:
وما زال هذا الدهر يلحن في الورى: ... فيرفع مجروراً ويخفض مبتدا
وقال أبن سناء الملك:
أبى الدهر إلاّ ضد ما أنا طالبٌ ... فيا ليت مني مكن الله ضدهُ
يعد الفتى إخوانه لزمانه ... وأعدا له من خوفه من أعدهُ
غيره:
تحفظ من ثيابك ثم صنها ... ة إلاّ سوف تلبسها حدادا
وميز عن زمانك كل حينٍ ... ونافر أهله تسد العبادا
وضن بسائر الأجناس خيراً ... وأما جنس آدم فالبعادا
أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى
وعادوا بعد ذا إخوان صدقٍ ... كبعض عقاربٍ رجعوا جدادا
وقال الأرجواني:
أرى بين أيامي وشعري قد بدا ... لتعجيل أتلافى خلافاً يجددُ
فقد أصبحت سوداً وشعري أبيضاً ... وعهدي بها بيضاً وشعري اسودُ
وقال بعض أهل المجون:
تعشقته شيخاً كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمينٌ على وردِ
أخا العقل يدري ما يراد من النهى ... أمنت عليه من رقيبٍ ومن ضدِّ
غيره:
لام العواذل إذ عشقت فتى له ... سبعون عاماً غير عامٍ واحدِ
لا تعذلوني في هواه فإنني ... عاينت فيه لمحةً من والدي
قيل لبعض أهل المجون: لم لا تميل الذي النسوان؟ قال: أذكر أمي فاستحي. فقيل له: لم لا تذكر بالذكور أباك؟ وعكس هذا الشاعر ذلك المعنى. ومن هذا النمط قول بهاء الدين بن النحاس:
قالوا: حبيبك قد تبدى شيبه ... فإلام قلبك في هواه يهيم؟
قال: اقصروا فالآن تم جماله ... وبدا سفاه فتى عليه يلزمُ
الصبح عرته وشعر عذراه ... ليلٌ ونبت الشيب فيه نجومُ
وقول أبن الوكيل وهو لطيف لولا عيب القافية:
شب وجدي بشائبٍ ... من سنا البدر أوجهُ
كلما شاب ينحني ... بيض الله وجههُ
وقال الصفدي:
عشقت شيخاً بديع حسنٍ ... لام على حبه العذولُ
كأن ياقوت وجنتيه ... لا شيب فيها جبال لولوُ
أي لؤلؤ. وقال الآخر:
شمس الضحى يعشى العيون ضياؤها ... إلاّ إذا روقت بعينٍ واحدة
فلذاك تاه العور واحتقروا الورى ... فاعرف قضيتهم وخذها فائدة
نقصان جارحةٍ أعانت أختها ... فكأنها قويت بعينٍ زائدة
وقال أبو نواس:
إني وما جمعت من صفد ... وحويت من سبدٍ ومن لبدِ
هممٌ تصرفت الخطوب بها ... فنزعت من بلدٍ إلى بلدِ
يا ويح مذ حسمت قناعته ... سبب المطامع عن غدٍ فغدِ
لو لم يكن لله متهما ... لم يمس محتاجاً إلى أحدِ
وقال محمد بن كنانة الأسدي:
ومن عجب الدنيا تيقنك البلا ... وأنك فيها للبقاء مريدُ
إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى ... فإنَّ فطام النفس عنه شديدُ
وقال الإمام البوصيري رحمه الله تعالى يمدح الشيخ أبا العباس المرسي رحمه الله تعالى ونفع به:
قل للذين تكلفوا زي التقى ... وتخيروا للدرس ألف مجلدِ:
لا تحسبوا كحل الجفون بحيلةٍ ... إنَّ المهى لم تكتحل بالاثمدِ!
الكحل بفتحتين أن يعلو منابت الأشفار سوادٌ خلقةً أو أن تسود مواضع الكحل. يقال: كحلت بالكسر فهي حكلاء وهو أكحل. وهذا مثل قول الآخر: ليس التكحل في العينين كالكحل وسيأتي. وقال الآخر:
وكنا كزوجٍ من قطا في مفازةٍ ... لدى خفض عيش معجب مونق رغدِ
أصابها ريب الزمان فأفردا ... ولم نر شيئاً قط أوحش من فردِ
حكي عن أبي الموءل قال: دخلت منزل نخاس في شراء جارية فسمعت في بيت بإزاء البيت الذي فيه صوت جارية وهي تقول: وكنا كزوجٍ. . " البيتين " فقلت للنخاس: اعرض علي هذه المنشدة! فقال: إنها شعثة مرهاء حزينة. فقلت: ولم ذاك؟ قال: اشتريتها من ميراث فهي باكية على مولاها. ثم لم ألبث أن أنشدت:
وكنا كغصني بانةٍ وسط روضةٍ ... نشم جنى الرضات في عيشةٍ رغدِ
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ ... فيا فردةً باتت تحنُ إلى فردِ
قال أبو السموءل: فكتبت إلى عبد الله بن طاهر أخبره بخبرها فكتب إلي أن ألق هذا البيت عليها فإن أجابت فاشتريها ولو بخراج خراسان! والبيت هو:
قريبٌ صد بعيد وصلٍ ... جعلته منه لي ملاذا
قال: فألقيته فقالت في سرعة:
فعاتبوه فذاب شوقاً ... ومات عشقاً فكان ماذا؟
قال: فاشتريتها وحملتها إليه فماتت في الطريق فكانت إحدى الحسرات.
وقال عمرو بن معدي كرب:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ
وهذا مثل مشهور كان علي كرم الله وجهه فيما يروون يتمثل به عندما يرى ابن ملجم. وتمثل به غيره أيضاً كما في حرف الهمزة. والعذير: العاذر والحال التي تحاولها لتعذر عليها. والعرب يقولون: عذريك من فلان وينصبونه بعامل لا يظهر. والمعنى: هلم من يعذرك من فلان فيلومه ولا يلومك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من أناس أبنو أهلي في حديث الافك. وقال زيد الخيل:
أمرتحلٌ قومي المشارق غدوةً ... وأترك في بيتٍ بفردة منجدِ؟
إلاّ رب يومٍ لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يجهدِ
فليت اللواتي عدنني لم يعدنني ... وليت اللواتي غبن عني شهدي!
وقال أعرابي:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبتردُ
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقدُ
وقال الآخر:
ما لعيني كحلت بالسهاد ... ولجنبي نائيا عن وسادي؟
لا أذوق النوم إلاّ غراراً ... مثل حسو الطير ماء التمادِ
ابتغي إصلاح سعدى بجهدٍ ... وهي تسعى جهدها في فسادي
فتتاركنا على غير شيء ... ربما أفسد طول التمادي
وقال المعتد بن عباد في باب الغزل:
أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا ... فعض به تفاحةً واجتنى وردا
ولو قدرت زارت على حال يقظةٍ ... ولكن حجاب البين ما بيننا مدا
أما وجدت عنا الشجون معرساً ... ولا وجدت منا خطوب النوى بدا؟
سقى الله صوب القطر أم عبيدةٍ ... كما قد سقت قلبي على حرة بردا
هي الظبي جيداً والغزالة مقلةً ... وروض الربا عرفاً وغصن النقى قدا
وقال الرئيس أبو مروان بن رزين:
وروضٍ كساه الطل وشياً مجددا ... فأضحى مقيماً للنفس ومقعدا
إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من العشب ميدا
إذا ما انسكب الماء عاينت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا
وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساماً صقيلاً صافي المتن جردا
وغنت به ورق الحمائم بيننا ... غناءً ينسيك الغريض ومعبدا
فلا تجفون الدهر ما دام مستعداً ... ومد إلى ما قد حباك به يدا
وخذها مداماً من غزالٍ كأنه ... إذا ما سقى بدرٌ يحمل فرقدا
وقال أبو بكر بن عمار من قصيدة:
وما هذه الأشعار إلاّ مجامرٌ ... تضوع فيها للنوى قطع الند
وقال أيضاً:
تبرعت بالمعروف قبل سؤاله ... وعدت بما أوليت والعود أحمد
وقال أبو الحسن بن الحاج اللورقي يتغزل في معذر:
وقد كان ينبت زهر الرياض ... فأصبح ينبت شوك القتادِ
أين لي متى كان بدر التمام ... يدرك بالكون أو بالفسادِ
وهل كنت في الملك من عبد شمسٍ ... فأخفى عليك ظهور السوادِ؟
وقال أبو محمد بن عبد البر في مجذوم:
مات من كنا نراه أبداً ... سالم العقل سقيم الجسدِ
بحر سقمٍ ماج في أعضائه ... فرمي في جلده بالزبدِ
كان مثل السيف إلاّ أنه ... حسد الدهر عليه فصدي
وقال أبو بكر بن الملح:
والروض يبعث بالنسيم كأنما ... أهداه يضرب لاصطباحك موعدا
سكران من ماء النعيم فكلما ... غناه طائره وأطرب رددا
يأوي إلى زهر كأن عيونه ... رقباء تعقد للأحبة مرصدا
زهر يبوح به اخضرار ذباته ... كالزهر أسرجها الظلام وأوقدا
ويبيت في فنن توهم ظله ... بالصبح في عين القرارة مرودا
قد خف موقعه عليه وربما ... مسح النسيم بعطفه فتأودا
وقال الفقيه أبو الحسن بن زنباع:
ومن يطفي بنزر الماء ناراً ... فليس يزيدها إلاّ اتقادا
وقال أبو جعفر التطيلي:
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا
تبادروها وقد آذتهم فشلاً ... وكلثروها وقد أحصتهم عددا
قل للمحدث عن لقمان اة لبدٍ ... لم يترك الموت لقماناً ولا لبدا
ولا الذي همه البنيان يرفعه ... إنَّ الردى لم يغادر في الشرى اسدا
ما لابن آدم لا تفنى مطالبه ... يرجو غداً وعسى إلاّ يعيش غدا؟
وقال الآخر:
باح مجنون عامرٍ بهواه ... وكتمت الهوى فمت بوجدي
فإذا كان في القيامة نودي: ... من قتيل الهوى؟ تقدمت وحدي!
وقال الآخر:
يقولون: إنَّ الحب كالنار في الحشى ... لقد كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلاّ جذوة مس عودها ... تسعر قلبا للمشوق وتوقد!
وقال الآخر:
أمسك ملامك عني إنني كمد ... إذ لم تجد في الهوى يوما كما أجد
إنَّ لم تصدق دموعي في الذي شهدت ... فأنظر إلى جسدي إنَّ كان لي جسد
يا ويح أهل الهوى إني لأرحمهم ... تبلى الجسوم وأثواب الهوى جدد
لولا ترحمهم أيقنت انهم ... يشقون دهرهم أضعاف ما سعدوا!
وقال الآخر:
كفى حزنا إني مقيم بلذةٍ ... وأحباب قلبي نازحون بعيد
أقلب طرفي في الديار فلا أرى ... وجوها لأحبابي الذين أريد!
وقد قلت في غرض الباب قصيدة، فرأيت إنَّ أثبتها هنا، وإنَّ كان فيها بعض ول، وهي:
أبى الدهر إلاّ أنَّ يجوز على القصد ... وأنَّ يعكس الآمال في كل ما يبدي
ويبسط بين الفرقدين يد النوى ... ويدني الثريا من سهيل على بعد
ويسمو بالوهد الحضيض على الذرى ... ويسفل بالطود السمي على الوهد
ويستبدل البردي في الطعن بالقنا ... وغصن النفى الأملود بالصارم الهندي
وأنَّ يجعل العقبان في الجو طعمة ... لورقاء والضبعان مفترس الأسد
ويهدي بالضب القطاة ركية ... على العشر والسمع النتائف بالخلد
ويرفع أقدار اللئام على الألى ... لهم فدم في المجد والشرف العد
ويلوي تدبير الورى كل مائقٍ ... وفضل الغنى كل امرئ شكس نكد
أجل إنّها الأحداث تجري مدارة ... مقاليدها في قبضة الصمد الفرد!
مقادير منه أبرمت عن مشيئةٍ ... قديما وعن علم محيط وعن قصد
وعدل وأحكام مبين وحكمة ... تحار النهي في نيل فياضها المد
وليست بما تهوى النفوس صروفها ... ولا حذر المحتال في صرفها يجدي
ولا يحرم الوفر الفتى بجهالةٍ ... وعجز ولا يحظى بعقل ولا كد
ولكنها الأرزاق أعددن للفتى ... قديما على قدر الشقاوة والجد
فكائن رأينا من حليم مفتر ... عليه وغمر بات في عيشةٍ رغد
أراني عروفا بالزمان فمن يكن ... كمثلي لم يصبح على الدهر ذا نقد
ولم يبتئس إنَّ مسه بمضوفةٍ ... ولم يزه بالدنيا إذا فاز بالوجد
وقد قرعتني الحادثات فلم تلن ... قناتي لغمز من شابها ولا لهد
وما رسنني حتى نزعن عن امرئٍ ... بعيد الهوى ثبت الحشا حازم جلد
إذا ظفرت كفاه لو يزه فاخراً ... وإنَّ نيل لم يضرع ولم يمس ذا وجد
فأصبحت لا آسى على فقد هالكٍ ... ولا يعتريني بين غانية رأد
ولا أبتغي امرئ عن تكلف ... وإنَّ كان حسن العهد ديني لذي ود
ولو ملني من الدهر معصمي ... لفارقته طوعا ولم يشكه عضدي
ورب غبي يزدريني إنَّ رأى ... شحوبي من حادث آونةٍ لد
ولم يدر أنَّ الأجرد النهد فضله ... بإحضاره لا باللجام ولا اللبد
وأنَّ الحسام الهندواني إنّما ... بمضربه يعتام لا جده الغمد
وأنَّ وراء الوهم لن يبق عزة ... عليه إذا ما قاده أصغر الولد
الوهم: الجمل العظيم الذلول، ورواؤه: منظره.
وإنَّ براٍ الهدهد التاج وهو لم ... يفز بالذي للباز والنسر من مجد
وإنَّ بهار الدفل كالورد منظراً ... وحسنا وبعد الخبر محمدة الورد
وغمر جهول يرتجي نيل منصبي ... رجاء حضيض أنَّ سيرقي إلى النجد
يصبو إلى ما نلته مثل ما صبا ... حصور إلى ما نيل من عذر الخرد
ويسعى إلى إدراك شأوي كما سعت ... أتان خريع خلف صافنةٍ جرد
وغرته مني لينة وبشاشةٍ ... كما غر غمراً كشرة الأسد الورد
ومن مد للبدر المنير يمينه ... ليمسكه فيلبسن ضيعة المد!
وذي ثروة يستأمني بلعاعةٍ ... ليقتادني قود الوديق إلى الورد
ولم يدر إني أجتوي الأري شابه ... هوان وأستحلي بعز جنى الهبد
وأنَّ لست للباغي ضيما بمصحب ... ولا باذل ماء وجهي على شكدِ
وإني لو أرتاد ما ضاق مذهبي ... بحول ولم يصلد لمفلقة زندي
ولكن صون النفس عن كل موردٍ ... تهان به أحظى بعزته عندي
وإني لفضاض السجايا دميثها ... لالفي ونشاب إذا شئت اللغد
وأنَّ لساني الصبر ما لم أزمه ... وإنَّ كان أحلى للودود من الشهد
وإني لو هاجيت دان أبن غالبٍ ... لأمري ولم يعرض لسيلي فتى العبد
ولو ثلاث هن أجررن مقولي ... عن الشر وائتمت به جدد الجد:
فمنها تحاشى أنَّ يمر به الخنا ... فإن الخنا من شيمة الدانيء الهد
ومنها تجافي أنَّ أناصب معشرا ... لئاما فمن لؤم مناصبة الوغد
ومنها التحامي عن وعيد التي إلى ... مداها جميع العالمين على وخد
وما المرء إلاّ حيث حل برحله ... فكن نازلا بالنفس في يفع الحمد
وكن رابئا عن كل ورد دنيةٍ ... بنفسك تغشاه مع الشرع الورد
وحم بجانب الورد إنَّ كنت صاديا ... فإنَّ تسرب فلتوله صفحة الصد
كما أعرضت كدر عن الماء عندما ... توجسن ذعرا فانثنين على جهد
ولا تك كالعير الوديق يؤمه ... فيحلأ عنه بالهراوى وباللكد!
فإنَّ حايض العز تغشى سخينة ... وإنَّ حايض الذل تقلى على برد
وما ضيم غير الفقع يوطأ بمنسمٍ ... على قرقر من غير نكر ولا رد
وغير تريك بيضة بلدية ... وغير أتان الحي تعصى أو الود
وكن حافظا بالغيب والسخط والرضى ... لعهد مصافيك الهوى دائم الود!
ألم بنا إلمامة بعد هداةٍ ... من الليل طيف من أميمة أو هند
سرى ورواق من دجى الليل منطب ... بما لو سرته الريح ضلت من البعد
فلم أر مثل الطيف جواب لاحبٍ ... بلا سائق يحدو ولا سابق يهدي
ولا والجا لا يغلق الباب دونه ... ولا يتلقى منه بسرور ولا سد
وأمن من لحظ الرقيب وريبه ... إذا زار ونه الرقيب على رصد!
فهيج أشجانا من القلب وانثنى بلا طائل منها عتيد ولا وعد
بأسرع من لحظ الجفون إذا رنا ... إليك وبالبرق والوميض من الرعد
فيا ليت شعري والحوادث جمة ... وعهد الغواني كالسراب على صلد!
أقامت على ما بيننا من صبابةٍ ... أميمة أم غيت مودتها بعدي؟
فخال من الأخدان كل مساعدٍ ... على أي حالٍ خضته صادق العهد
حليم غضيض الطرف عما يربيه ... سليم الحشا من هاجس الضغن والحقد!
فإنَّ وداد المرء كالظل زائل ... إذا لم يكن بين الجوانح عن عقد
وإنَّ حبال الوصل منقوضة العرى ... إذا لم تكن في القلب محكمة المسد
وإنَّ بناء شدته وأشتده ... لواهٍ إذا لم يرس عن ثابت العمد
وإنَّ ركيا ردته ووردته ... لغور إذا لم يزك من باطن المد
فهل تستوي عادية بخميلةٍ ... بها الماء عد دائم بحسى ثمد؟
وإنَّ أليف المرء إلف مشاكل ... وأحسن شيء ضمك الند للند
ولا تطمعن من غير شكل مودة ... تودم ويجني الود فيها على الود!
فإنَّ السجايا في الأنام سوية ... وشتى وبدع صحبة الضد للضد
وانك ما أبصرت أسداً أليفة ... لحمر وغربانا تحن إلى العفد
وما المرء إلاّ أبن الثرى فمراحه ... وإنَّ عاش أزمانا إلى ذلك المهد
وعمر الفتى المضمار بينا جواده ... يباري مداه إذ هوى في هوى اللحد
وبينا الفتى يزهو بمال وأسرةٍ ... إذا هو يشجى بالرزايا وبالفقد
إذا ما سمعت الدهر عولة حائر ... فكن حائر فكن راصد أمثالها إنّها تعدي
وقلت أيضاً:
أستغفر الله قد ضيعت نحوكم ... خطا وذلك من أخطائي السددا
سلكت فيها خباراً بل وطئت بها ... شوك القتاد ولم أسلك بها جددا
لو كنت أعلم ما ألقى ببابكم ... جعلت تصفيد رجلي دونكم صفدا
وقال الآخر:
إنَّ وصفوني فناحل الجسد ... أو فتشوني فأبيض الكبد
أضعف وجدي وزاد في سقمي ... أنا لست أشكو الهوى إلى أحد
أهٍ من الحب أهٍ من كبدي ... إنَّ لم أمت في غد فبعد غد
جعلت كفي على فؤادي من ... حر الهوى وانطويت فوق يدي
كأن قلبي إذا ذكرتكم ... فريسة بين ساعدي أسد!
وقال الآخر:
تغرب أمري فانفردت بغربة ... فصرت فريدا في البرية أوحدا
تسرمد وقتي فكيف فهو مسرمد ... وأفنيت عني فصرت مجددا
وقال الآخر:
لو كنت املك طرفي ما نظرت به ... من بعد فرقتكم يوما إلى أحد
ولست أعتده من بعدكم نظراً ... لأنه نظر من ناظري رمد
وقال الآخر:
تزود من الدنيا النقاخ ولن ترى ... بوادي الغضا ماء نقاخا ولا وردا
ونل من نسيم ألبان والرند نفحة ... وهيهات وادٍ ينبت ألبان والرندا!
وكرر إلى تجدٍ بطرفك أنه ... متى تغد لا تنظر عقيقا ولا نجدا!
وقال الآخر:
أكلف القلب أنَّ يهوى وألزمه ... صبرا وذلك جمع بين أضداد
وأكتم الركب أوطاري وأسأله ... حاجات نفسي لقد أتعبت روادي
هل مخبر عنده من منكر خبر ... وكيف يعلم حال الرائح الغادي؟
فإنَّ رويت أحاديث الذين مضوا ... فعن نسيم الصبا والبرق إسنادي
وقال الآخر:
زعموا أنَّ من تباعد يسلو ... ولقد زادني التباعد وجدا
إنَّ وجدي بكم وإنَّ طال عهدي ... وجد يعقوب حين فارق عهدا
خليلي إنَّ الجزع أضحى ترابه ... من الطيب كافورا وأغصانه رندا
وأصبح ماء البحر خمراً وأصبحت ... حجارة دراً وأوراقه وردا
وما ذاك إلاّ إنَّ مشت بجانبه ... أميمة أو جرت بتربته بردا
وهذا الشعر يتمثل به السادات في انخراق العوائد واستحالة الأشياء ببركة من جاورها ومسها أو استدعاها من الصالحين.
وذكر صاحب التشوف رحمه الله تعالى عن بعض الناس قال: كنت أتوضأ في البحر على قرب من الشيخ أبي عبد الله الصنهاجي، المعروف بابن أمغار. قال: وكان أبو عبد الله شرع في الوضوء من البحر، فتطعمت ماء البحر فوجدته حلوا، فقلت له: يا أبا عبد الله، إنَّ ماء هذا البحر حلو! فقال لي: هو كما قلت! وقال بعض الناس: كنت بالحرم الشريف مكة، فخرجت وقت السحر لأشرب من زمزم، فوجدت شيخا قد أخذ الدلو فشرب وأفضل، فوجدت الماء أحلى من العسل والسكر. فلما كان الغد، خرجت في ذلك الوقت أيضا إلى زمزم، فوجدت صاحبي. فلما شرب، أخذت الفضلة، فتعلقت به وقلت: سألتك بالله إلاّ أخبرتني من أنت! قال: أنا سفيان الثوري، واستر علي!
وحدث صاحب التشوف أيضاً عن بعضهم قال: مررت بالشيخ أبي موسى الدكالي السلاوي المشهور، وهو يأكل عسلوجا من عسالج الكلخ. فناولنيه فأكلته فوجدته طيبا. وعن أبي الحسن الأنصاري، المعروف بابن الصائغ، قال: زرت الشيخ أبا يعزى، فلما كان غروب الشمس خرجت للضوء مع جماعة، فبعدنا عن القرية، فحال الأسد بيننا وبين القرية. فقيل للشيخ أبي عز: حال الأسد بين أصحابك وبين القرية. فأخذ الشيخ عصاه بيده وجعل يضرب الأسد، ففر أمامه وقربنا منه، فجعل يأكل عيون الدفلى، فقال لترجمانه: قل لأبي الحسن: ما تقولون انتم معشر الفقهاء فيمن يأكل الدفلى؟ فقلت له: قل له: يقولون: من أكل الدفلى طرد الأسد! فأعلمه الترجمان بقولي، فرأيته يبتسم.
ومن هذا ما حدثني به بعض الثقات، وإنَّ بساحل حاحة، عند ضريح الشيخ أبي العباس أحمد الهشتوكي، المعروف بالسائح، تلميذ الشيخ سيدي سعيد بن عبد المنعم المناني. قال: حدثني فلان وكان أصحاب أبي العباس قال: جئت مع أبي العباس عند هبوطه إلى هذا الساحل، فأتينا على مصلى الشيخ محمد بن سليمان الجزولي، وكان مصلاه معروفا هناك بشاطئ البحر يزار. قال: فأقمنا في المصلى يومين أوقال ثلاثة. واحسبه قال - قال: لا نطعم شيئاً حتى أحسست بجوع شديد. فقال لي أبو العباس: قم إلى الضرو فخذ لنا من أوراقه! والضرو شجر معروف أوراقه أمر شيء. قال فقمت إلى الشجرة منها، فملأت حجري من الورق، وجئت به إليه فطرحته أمامه وأحسبه قال - قال: فحركه، فعاد زبيبا ولوز. قال: فأكلنا حتى اكتفينا. فلما قمنا من ذلك الموضع ومررنا على قرب من موضع الشجرة، تركت الشيخ حتى أدبر، فانسللت منه وأتيت الشجرة، فاقتطفت قبضة من أوراقها وجعلتها في فمي ومضغتها، فوجدتها أمر شيء، فمججتها، واتبعت الشيخ فأدركته يتوضأ في شعب هنالك. فلما رآني جعل يبتسم وقال لي: أفعلت كيت وكيت؟ قلت نعم! فقال لي ما معناه: أفتحسب أنَّ لا اله إلاّ الله في أفواه الرجل سواء؟ وقد وقع مثل هذا لإبراهيم بن أدهم. وحكايات الصالحين في نحو هذا لا تنحصر، وإنّما أردنا أنَّ نتبرك ببعض ذلك، نفعنا الله بمحبتهم وحشرنا في زمرتهم! وهذا القدر يكفي، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.











مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید