المنشورات
رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
الرأي: الاعتقاد، والجمع آراء ورئى. والشيخ والغلام معروفان. وهذا الكلام يحكي عن علي، كرم الله وجهه، وهو تفضيل للسن، في ملاقاة الخطوب، على الشباب.
وللعرب في هذا مذهبان: تارة يمتدحون بالسن والتجريب، وتارة بالشباب والقوة. فمن الأول كلام علي المذكور، وقول الشاعر وهو زهير بن مسعود:
فلم أرقه إنَّ ينج منها، وإنَّ يمت ... فطعنة لاغس ولا بمغمر
الغس: اللئيم والمغمر: الذي لا تجريب له ولا سن. وقول إلي الطيب:
سأطلب حقي بالقنا ومشائخٍ ... كأنهم من طول ما التمثوا مرد
ومن ذلك قول حارثة بن سراقة الكندي، حين منعوه الزكاة أيام الردة: يمنعها شيخ بخديه شيب، لا يحذر الريب. ومن الثاني قول عامر بن الطفيل يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأمنعنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا! وذلك لحالتين مختلفتين: فأنهم إذا أرادوا الحزم وحسن الذي رأي والتدبير والتأني والثبات إذا اشتدت الخطوب، فالشيوخ أولى؛ وإذا أرادوا الجلادة والقوة، فالشباب أولى، مع أنَّ كلا من الأمرين قد يوجد في كل من الطرفين: فانه كما لا خير في رأي الشباب الغمر الجاهل، لا خير في رأي الشيخ الخرف. ومن ثم قيل في الحكمة: إياك ومشاورة شاب معجب برأيه، أو كبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه! وأما قول قطري بن الفجاءة:
ولقد أراني للرمح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أحناء سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الأقدام
فقد فسر بمعنين: أحدهما وهو الظاهر من العبارة إنّه يقول: انصرفت وقد أصبت من أعدائي ما أحب من القتل والفتك والكناية، ولم أصب أنا منهم، بل انصرفت سالما وأنا جذع البصيرة، أي قويها، كامل المريرة، لم يضعف عزمي ولا هنت بنيتي بما أصاب جسمي من الجراحة، وأنا أيضاً قارح الأقداح أي كامله شديده لأنَّ القارح من الخيل الذي تناهت سنه وكملت قوته.
والثاني هي الخفي أنه يقول: أصبت من الأعداء وانصرفت عنهم وأنا لم أصب أي لم أوجد جذع البصيرة قارح الأقدام بل وجدت قارح البصيرة جذع الأقدام؛ لأنَّ بصيرة القارح المجرب هي التي لا تضطرب ولا تستحيل وبصيرة الجذع أي الصغير لا تثبت ولا تدوم وإقدام الجذع قوي ماض لأنّه لا ينثني ولا يردعه شيء.
واستظهار هذا التفسير الثاني الذي امتدح فيه بالسن على الأول الجلي إنّه يستحيل أن يقول: انصرفت ولم أصب من أعدائي بشيء. وكيف وهو يقول قبله: حتى خصبت بما تحذر من دمي: أحناء سرجي؟ فهذا اعتراف بأنه أصيب بالجرح. فكيف ينقض كلاوه؟ وأجيب من قبل أهل المذهب الأول بأنه أراد بقوله: لم اصب لم أقتل. يقال: فلان أصيب أي قتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمرئه: أميركم زيد: فإنَّ أصيب فجعفر فإنَّ أصيب فعبد الله بن رواحة. فقتلوا كلهم.
وقال أصحاب الرأي الثاني: كيف يحسن منه أن يقول: أقتل وهو ينشدهم الشعر والمصيبة تطلق على أعم من القتل؟ قال تعالى:) الذين أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّ إليه راجعون (.
قلت: وهذا الكلام ضعيف إذ لا مانع من أن يقول افتخارا: قتلتهم وأهلكتهم ولم يقتلوني. وأما عموم المصيبة فغير مانع من التخصيص بقرينة المقام وسياق الكلام مع أن استنكافه من يكون إقدامه قارح ورضاه بإقدام الجذع مخول فإنَّ العرب ما زالت تفضل القارح على الجذع كما قال زهير:
يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء
ولذلك قيل في المثل: مذكية تقاس بالجذاع. وقيل أيضاً: جري المذكيات غلابٌ، ة قد تقدم في هذا الكتاب معاً.
وقول زهير بن مسعود السابق: فلم أرقه إن ينج منها يريد الطعنة التي طعن.
وقبل البيت:
عشية غادرت الجليس كأنما ... على النحر منه لون بردٍ محبرِ
جمعت له كفي بلدنٍ يزينه ... سنان كمصباح الدجى المستعرِ
فلم أرقه " البيت " وإنّما قال هذا لأنَّ العرب كانت تزعم أنَّ المطعون يبرأ إذا نفث عليه الطاعن ورقاه. قال عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقدُ
وقال عمرو بن ثعلب الشيباني:
أتبعته طعنة مرةً ... يسيل على النحر منها صبيبُ
فإن ينجُ منها فلم أرقه ... وإن قتلته فجرحٌ رعيبُ
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
2 مايو 2024
تعليقات (0)