المنشورات
أربع على ظلعك!
يقال: ربع يربع إذا وقف وتحبس. ويقال أربع على نفسك، أي ارفق. وفي الحديث: أربعوا على أنفسهم! والظلع بالظاء المشالة في البعير ونحوه: غمزة برجله في مشيته. يقال: ظلع البير بالفتح يظلع.
قال أبو ذؤيب يذكر فرسا:
يعدوا به نهش المشاش كأنه ... صدع سليم رجعه لا يظلع
فهو ظالع والأنثى ظالعة.
وقول النابغة الذبياني:
أتوعد عبدا لم يخنك أمانة ... وتترك عبدا ظالما وهو ظالع
يروى بالمشالة وفسر بالجائر المذنب، من الظالع في البعير، وهو غمز برجله لداءٍ يصيبه، وبالضاد المعجمة، وهو الجائر المائل عن الحق.
ومعنى المثل انك ظالع، فأرفق بنفسك في مشيتك لأجل ما بك من الظلع! فيضرب للضعيف، وإنّه ينبغي له أنَّ ينتهي عما لا يطيق.
وحكى أبو علي إنّه اجتمع طريف بن العاصي الدوسي والحارث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير فتفاخر، فقال الملك للحارث: يا حار، ألا تخبرني بالسبب الذي أخرجكم من قومكم حتى لحقتم بالنمر بن عثمان؟ فقال: أخبرك أيّها الملك: خرج هيجان منا يرعيان غنما لهما، فتشاولا بسيفهما، فأصاب صاحبهم عقب صاحبنا، فعاث فيه السيف فنزف فمات. فسألونا أخذ دية صاحبنا دية الهجين، وهي نصف دية الصريح، فأبى قومي، وكان لنا رباء عليهم، فأبينا إلاّ دية الصريح، وأبوا إلاّ دية الهجين.
وكان اسم هجيننا بن زبراء صاحبهم عنقش بن مهيرة، وهي سوداء أيضاً. فتفاقم الأمرين الحيين، فقال رجل منا:
حلومكم يا قوم لا تعزبنها ... ولا تقطعوا أرحامكم بالتدابر
وأودى إلى الأقوام عقل أبن عمهم ... ولا ترهقونهم سبة في العشائر
فإنَّ أبن زبراء الذي فاد لم يكن ... بدون حليف أو أسيد بن جابر
فإنَّ لم تعطوا الحق فالسيف بيننا ... وبينكم والسيف أجور جائر
فتضافروا علينا حسدا، فأجمع ذوو الحجا منا أن نلحق بطن من الأزد، فلحقنا بالنمر بن عثمان. فوالله ما فت في أعضادنا نأينا عنهم، ولقد أثارنا بصاحبنا وهم رأغمون، فوثب طريف بن العاصي من مجلسه، فجلس بازاء الحارث ثم قال: تالله ما سمعت كاليوم قولا أبعد من الصواب، ولا اقرب من خطل، ولا أجلب لقذع، من قول هذا. والله، أيها الملك، ما قتلوا بهجينهم بذجا، ولا رموا ودجا، ولا أنطوا به عقلا، ولا اجتفروا به خشلا. ولقد أخرجهم الحق عن أصلهم، وأجلاهم عن محلهم، حتى الإزعاج، ولجئوا إلى ضيق الولاج، قلا وذلا! فقال الحارث: أتسمع يا طريف؟ وإني والله ما أخالك كافا غرب لسانك، ولا منهنها شرة نزوانك، حتى أسطو بك سطوة تكف طماحك، وترد جماحك، وتكبت تترعك، وتقمع تسرعك! فقال طريف: مهلا يا حار، لا تعرض لطمحة استناني، وذرب سناني شبابي، وميسم سبابي، فتكون كالأظل الموطوء، والعجب الموجوء! فقال الحارث: إياي تخاطب بهذا القول؟ فوالله لو وطئتك لأسختك، ولو وهطتك لآوهطك، ولو نفحتك لأفدتك! فقال طريف متمثلا:
وإنَّ كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها!
أما والأصنام المحجوبة، والأنصاب المنصوبة، لئن لم تربع على ظلع وتقف عند قدرك، لأدعن حزنك سهلا، وغمرك ضحلا، وصفاك وحلا! فقال الحارث: أما والله لورمت ذلك لمرغت بالحضيض، وأعصصت بالجريض، وضاقت عليك الرحاب، وتقطعت بك الأسباب، ولألفيت لقنى تهاداه الروامس، بالسهب الطامس فقال طريف: دون ما ناجتك به نفسك مقارعة أبطال، وحياض أهوال، وحفز إعجال، يمنع معه تطأ من الإمهال! فقال الملك: أيّها عنكما، فما رأيت كاليوم نقال رجلين لم يقصبا ولم يثلبا، ولم يلصوا ولم يقفوا! انتهى.
قوله: مقاول، والمقاول: الملوك دون الملك الأعظم؛ وكذا الأقيال والأقوال. وقال امرؤ القيس:
وماذا عليه إنَّ ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقوال؟
وتشاولا: تضاربا؛ وعاث السيف: افسد: ونزف: سال دمه حتى ضعف. والهجين من الناس: الذي أبوه عربي وأمه غير عربية؛ والمقرف عكسه؛ والصريح: الخالص الطرفين، والرباء: زيادة العقل: الدية وأرهقه: كلفته، وفاد: مات. قال لبيد:
رعى خزرات المكل عشرين حجة ... وعشرين حتى فاد والشيب شامل
وفت: أوهى وأضعف، وأثارنا: افتعلنا، من الثأر، والخطل: الخطأ، والقذع: الكلام القبيح، والبذج: الخروف، الفارسي معرب، وأنطوا: أعطوا. قال الأعشى:
جياد في الصيف في نعمةٍ ... تصان الجلال وتنطى الشعيرا
واجتفؤوا: صرعوا، يقال: جفاه إذا صرعه، والخشل مسكنا ومحركا شجر المقل الواحد خشلة، والقل: القلة والذل: الذلة، والنزوالن: الوثوب: والتترع: التسرع إلى الشر، يقال: تترع تترعا إذا كان سريعا إلى الشر، وطمحة السيل: دفعته، والذرب: الحدة، والأظل: اسفل خف البعير، والعجب: أصل الذئب، وهصته: كسرته؛ وأوهطته: صرعته؛ وتربع: تكف وترفق، كما مر، والظلع: الغمز؛ والضحل: الماء القليل، والضيض: القرار الأسفل، والروامس: الرياح، ترمس، أي تدفن. والحفر: الدفع. وقول الملك: يقصبا، أي يشتما، والقصب: القطع ويلصوا: يقذا، يقال: لصا إليه إذا أنضم إليه لريبة، ولصا المرأة يلصوها: قذفها، ويقفوا: يرميا بالقبيح، قفوته أقفوه: رميته بالقبيح أو قذفته.
وذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الأحياء إنَّ عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها، فجعل يسألهم، وكلهم عامراص الشعبي، فجعل لا يسأله عن شيء إلاّ وجد عنده فيه علما. ثم أقبل على الحسن البصري، فسأله ثم قال: هما هذان: هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي وهذا رجل أهل البصرة يعني الحسن. فأمر الحاجب، فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن. فأقبل على الشعبي وقال: يا أبا عمرو، إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم، فأنا احب حفظهم وتعهد ما يصلحهم من النصيحة لهم. وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أخذ عليهم فأقبض طائفة فأضعه في بيت المال ومن نيتي إني رد عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين إني قبضته على ذلك من النحو، فيكتب إلي أنَّ لا ترده، فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه، وإنّما أنا رجل مأمور على الطاعة، فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور، والنية فيها على ما ذكرت؟ قال الشعبي: فقلت، أصلح الله الأمير، إنّما السلطان والدي يخطئ ويصيب. قال: فسر بقولي وأعجب له ورأيت البشر في وجهه، قال: فلله الحمد! ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قد سمعت قول الأمير يقول إنَّه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليه ورجل مأمور على الطاعة أبتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لمّا يصلحهم، وحق الرعية لازم لك وحق أنَّ تحوطهم بالنصيحة. وإني سمعت عبد الرحمان ب سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استرعي رعية فلم يحفظها بالنصيحة حرم عليه الجنة. وتقول إنّما قبضت من عطاياهم إرادة صلاحهم واستبطالهم وإنَّ يرجعوا إلى طاعتهم، فيبلغ أمير المؤمنين إني قبضتها على ذلك النحوا فيكتب إلي إنَّ لا ترده، فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين، والله أحق أنَّ تطيع ولا طاعة في معصية الله. فاعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله غز وجل، فإنَّ وجدته موافقا لكتاب الله عز وجل فأنفذه! يا أبن هبيرة، واتق الله، فأنه يوشك إنَّ يأتيك رسول من رب العلمين يزيلك عن سريرك، ويخرجك عن سعة قصرك إلى مضيق فبرك، فتدع سلطانك ودينك خلف ظهرك، وتقدم على ربك وتنزل على عملك! يا أبن هبيرة وإنَّ الله يمنعك من يزيد، وإنَّ يزيد لا يمنعك من الله، وإنَّ أمر الله فوق كل أمر، وإنّه لا طاعة في معصية الله، وإني أحذرك بأس الله الذي لا يرده عن القوم المجرمين. فقال أبن هبيرة: أربع على ظلعك أيّها الشيخ عن ذكر أمير المؤمنين! فإنَّ أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحلم وصاحب الفضل؛ وإنّما ولاه الله ولاية هذه الأمة لعلمه به وما يعلم من فضله ونيته. قال الحسن، يا أبن هبيرة، الحساب من ورائك سوطا بسوط، وعصا بعصا، والله بالمرصاد. يا أبن هبيرة انك أنَّ تلقى من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر أخرتك خير من أنَّ تلفى رجلا يغرك ويمنيك!
فقام أبن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي: فقلت: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصلته. قال: إليك عني يا عامر! قال: فخرجت إلى الحسن الطرف والتحف، وكانت له المنزلة، واستخف بنا وجفينا، فكان أهلا لمّا أدى إليه، وكنا أهلا أنَّ يفعل ذلك بنا. فما رأيت مثل الحسن فما رأيت من العلماء إلاّ مثال الفرس العربي بين المقاريف، وما شهدنا مشهدا إلاّ برز علينا، وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة. قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أنَّ أشهد سلطانا بعد هذا المجلس فأجابه!
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
2 مايو 2024
تعليقات (0)