المنشورات

رجع بصحيفة الملتمس.

الصحيفة بفتح الصاد المهملة: الكتاب والجمع صحائف وصحف، على غير قياس؛ والملتمس: شاعر معروف، وهو جرير لن عبد المسيح. ولقب بالملتمس لقوله:
وذلك أوان العرض طن ذبابه ... زنابيره والأزرق الملتمس
وصحيفته: كتاب كتب له عمرو بن هند يذهب إلى عامله بالبحرين ليقتل، وأوهمه أنَّ المكتوب فيها الحباء يأخذه من العامل. فضرب المثل بهذه الصحيفة لمن يستحصب هلاكه وهو يضنه نفعا.
وشرح هذه القصة أنَّ طرفة بن العبد الشاعر المشهور البكري الوائلي، هجا عمرو بن هند مضرط الحجارة لمتقدم ذكره قوله:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
من زمرات أسبل قادمها ... وضرتها مركنة درور
يشاركنا لها رحلان فيها ... تعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إنَّ قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الدهر يقصد أو يجور
لنا يوم وللكروان يوم ... تطر المائسات وما نطير
فما يومنا فنظل ركبنا ... وقوفا ما نحل وما نسير
وما يومهن فيوم سوءٍ ... يطاردهن بالحدب الصقور
وتقدم بعض هذه الأبيات، وقوله قسمت الدهر، الخ. . إشارة إلى ما يحكى أنَّ عمرو بن هند كان دأبه أنه يصطاد يوما ويوما يقف الناس ببابه: فإنَّ اشتهى حديث رجل منهم أذن له. فلبث على ذلك دهره. وكان لطرفة أخت تزوجها عبد عمرو، وعبد عمرو هذا كان أقرب الناس إلى عمرو بن هند منزلة. فجاءت أخت طرفة يوما تشكو زوجها هذا، فهجاه طرفة بقوله:
يا عجبا من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما
ولا خير فيه غير أنَّ قيل واجد ... وإنَّ له كشحا إذا قام أهضما
وإنَّ نساء الحي يركضن حوله ... يقلن: عسيب من سرارة ملهما
له شربتان بالنهار وأربع ... من الليل حتى آض سخدا مورما
ويشرب جزيرة يغمر المحض قلبه ... وإنَّ أعطه أترك لقلبي مجثما
كأنَّ السلاح فوق شعبة بانة ... ترى نفخا ورد لأسرة أصحما
وكان عبد عمرو أجمل أهل زمانه جسما وكشحا، وذلك وصفه بالكشح الأهضم، أي الضامر العسيب: عسيب النخل. وملهم: موضع باليمن ذو نخل، وسرارته أكرم موضع فيه، وكذا سرارة كل واد. والسخد: الورم وقيل السلا. شبه جسده في نعمته ورجرجته بالورم أو السلا المنتفخ؛ والنفخ: انتفاخ البطن، وقوله: ورد الأسرة، أي أسرته مرودة بالطيب والزعفران حتى صار أصحم، وهو الأحمر المائل إلى السواد. وهذا كله من أوصاف النساء، لا الرجال، وهو هجو خبيث. ثم إنَّ عمرو بن هند خرج يوما إلى الصيد ومعه عبد عمرو، فرمى عمرو حماراً فقعره، فقال لعبد عمرو: أنزل فاذبحه! فنزل وعالجه فأعياه الحمار وضحك منه عمرو بن هند وقال: لقد أبصرك طرفة حين قال: ولا خير فيه. . " البيت ". فيروى إنّه لمّا قال له ذلك، قال عبد عمرو، أبيت اللعن! ما قال لك أشد مما قال لي. قال: وما قال؟ فأنشده الأبيات السابقة. فغضب عمرو وقال: قد بلغ من أمره أن يقول! فأرسل إليه ليكتب له إلى رجل من عبد القيس بالبحرين، وهو المعلى، وكان عامله عليها، ليقتله. فقال بعض جلسائه: إنّه حليف المتلمس، فإنَّ أوقعت بطرفة هجاك المتلمس. فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس، فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس معا، فأتياه، وهو بالبقة، قريبا من الحيرة، فكتب إلى عاملة بالبحرين ليقتلهما، وأخفي ذلك عنهما أنَّ ارتياح عمرو لي ولك لأمر مريب، وإنَّ انطلاقي بصحيفة لا أدري ما فيها لغرور فقال طرفة: أنك لمسيء الظن. وما تخشى من صحيفة إنَّ كان فيها الذي وعدناه، وإلاّ رجعنا إليه، فأبى المتلمس، وأبى طرفة أنَّ يجيبه، ففض المتلمس خاتم صحيفته وقام إلى من أهل الحيرة يستقي فدفعها إليه، فقرأها الغلام فقال: أنت المتلمس؟ قال: نعم! قال: النجاء! النجاء! قد أمر بقتلك. فجاء بالصحيفة حتى قذفها في نهر الحيرة، ثم قال:
ألقيتها بالثنى من جنب كافر ... كذلك أقنوا كل قط مضلل
رضيت لمّا بالماء لمّا رأيتها ... يجور بها التيار في كل جدول
وقيل انهما مرا في طريقهما ذلك على رجل يتغدى وهو يقضي حاجة الإنسان ويلفي ثوبه. فقال المتلمس: ما رأيت أحمق من هذا. فقال وما رأيت من حمقي؟ إنّما آكل غذائي وأخرج دائي وأقتل أعدائي. وهل الأحمق إلاّ من يحمل حتفه على كتفه؟ أو كلاما نحو هذا. فحينئذ إستراب المتلمس أمر الصحيفة فاستقرأها كما مر، ثم قال لطرفة: تعلم أن في كتابك مثل ما في كتابي؟ فقال طرفة: لئن اجترأ عليك، ما كان ليقدم علي. فلما أعياه طرفة وأبى أن يطيعه، وخرج الملتمس من فوره ذلك إلى الشام هاربا وقال:
من مبلغ الشعراء عن إخوانهم ... نبأ فتصدقهم بذلك الأنفس
أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته المتلمس
ولقد نصحت له فرد نصيحتي ... وجرت له بعد السعادة أنحس
وفي ذلك قيل:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
وخرج طرفة حتى أتى صاحب البحرين بكتابه، فدفعه إليه، فقال صاحب البحرين: إني رجل في حسن وبيني وبين أهلك إخاء قديم، فأهرب إذا خرجت من عندي، فقد أمرت بقتلك! فإن كتابك إنَّ قرئ لم أجد بدا من قتلك! فأبى وطن إنّه لا يجترئ على قتله. فحبسه حتى قتله. وفيه يقول طرفة، يخاطب العامل:
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
آيا منذر أفنيت فأستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض!











مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید