المنشورات
لطيفة:
ذكر العلامة محمد بن مرزوق في صدر شرح الجمل أنَّ العلامة أبا القاسم الشيرازي شارح لبن الحاجب الأصلي والعلامة الكاتبي شارح المحصل أرادا ذات مرة أن يحضرا مجلس أبي عبد الله الخنوجي بحيث يخفي مكانهما. فغيرا حالتهما وحضرا عنده وأرادا أبحاثا. فكان من ملح ما صار بينهما أنهما لم ينصفاه في بعض أبحاثه وادعيا عدم بيان قوله وجعلا يستعيدان كلامه بزعمهما. فأنشد لهما:
عليَّ نحت المعاني من معادنها ... وما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ!
بفتح تاء " تفهم " مبنيا للفاعل. فقلا له: ضم التاء! يعني ليبني للمفعول.
فقال: حينئذ يكون أحدكما شيرازيا والآخر كاتبيا! فقلا: نعم! فتناصفا.
وقال أبو العلاء المعري في قصيدة:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
وهذا المعنى وقع لعلي بن جبلة قال: زرت أبا دلف في الجبل. فلما حللت الكرخ أظهر من بري وإكرامي أمرا مفرطا حتى تأخرت عنه تأخرا كثيرا. فوصل معقل بن عيسى فقال: يقول لك الأمير: انقطعت عني وأحسبك استقللت بري فلا يغضبنك ذلك فسأزيد فيه حتى ترضى! فقلت: والله ما قطعي عنه إلاّ إفراطه! وكتبت له:
هجرتك لو أهجرك من كفر نعمةٍ ... وهل يرجى نيلي الزيادة في الكفرِ!
ولكنني لمّا أتيتك زائراً ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكرِ
فما لآن لا أتيك إلاّ مسلما ... أزورك في الشهرين يوما أو الشهرِ
فإن زدتني برا تزيدني جفوة ... ولم تلقني طول الحياة إلى الحشرِ
فلما وصلت إليه قال: قاتله الله ما أشعره وأدق معانيه! فأجابني لوقته وكان حسن البديهة:
ألا رُبَّ ضيفٍ طارقٍ بسطته ... وأنسته قبل الضيافة بالبشرِ
أتاني يرجيني فما حال دونه ... ودون القرى والعرف من نيله ستري
وجدت له فضلاً عليَّ بقصده ... إليَّ وبراً زاد فيه على برِ
فزودته مالاً يقل بقاؤه ... وزودني مدحاً يدوم مدى الدهرِ
وبعث إليَّ بها وبألف دينار مع وصيفة فقلت حينئذ:
إنما الدنيا أبو دلفٍ ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلفٍ ... ولت الدنيا على أثره
ملكٌ تندى أنامله ... كانبلاج النوء عن مطره
مستهل عن مواهبه ... كابتسام الروض عن زهره
جبلٌ عزت مناكبه ... أمنت عدنان في ثغره
كل من في الأرض من عربٍ ... بين باديه ومحتضره
مستعيرٌ منه مكرمةً ... يكتسبها مفتخره
ويقال إنَّ البيت الثاني هو الذي أحفظ المأمون على أبن جبلة حتى سل لسانه من قفاه وقوله: وجدت له فضلا عليَّ. . " البيت ". أوّل من رأينا استعمل هذا المعنى في الشعر الحارث أبن عوف المري صاحب الحملات بين عبس وذبيان حيث يقول:
كم من يدٍ لا أودي حق نعمتها ... عندي لمختبطٍ طار ومن منن
إذا جاء يسعى إلى رحلي لأسعفه ... أليس قد ظن بي خيراً ولم يرني؟
وقوله: فزودته مالاً يقل بقائه. . " البيت " هو معنى ما حكي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّه قال لإحدى بنات هرم بن سنان المري: ما أعطى أبوك زهيرا إذا امتدحه؟ فقالت: أعطاه مالا وأثاثا أفناه الدهر. فقال أمير المؤمنين: لكن ما أعطاكم زهير لا يفنيه الدهر أو كلاما نحو هذا. وتقدم شيء منه وسيأتي.
ومنها:
حسنت نظم كلامٍ توصفين به ... ومنزلا بك معمورا من الخفر
فالحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشَّعر
ومنها:
والخل كالماء يبدى لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدرِ
ومنها:
فلا يغرنك بشرٌ من سواه بدا ... وإن أنار فكم نورٍ بلا ثمر
ومنها:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر
المرقدون بنجدٍ نار بالديةٍ ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر
ومنها:
فالعين يسلم منها ما رأت فنبت ... عنه وتلحق ما تهوى من الصور
ومنها:
هاجت نميرٌ فهاجت منكم ذا لبد ... والليث أفتك أفعالا من النمرِ
هموا فأموا فلما شارفوا وقفوا ... كوقفة العير بين الورد والصدر
ومنها:
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ومنها:
والمرء ما لم تفد نفعا إقامته ... غيمٌ حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
ومنها:
والكبر والحمد ضدان اتفاقهما ... مثل اتفاق فتاء السن والكبر
يجني تزايد هذا من تناقص ذا ... والليل إن طال غال اليوم بالقصر
خف الورى وأقرتكم حلومكم ... والجمر تعدم فيه خفة الشرر
وقال أيضاً:
جمال المجد أن يثنى عليه ... ولولا الشمس ما عرف النهار
وللماء فضيلة كل حينٍ ... ولا سيما إذا اشتد الأوار
ومنها:
وليس يزيد في جري المذاكي ... ركابٌ فوقه ذهبٌ ممارُ
ورُبَّ مطوقٍ بالتبر يكبو ... بفارسه وللنقع اعتكارُ
وزندٍ عاطلٍ يحظى بمدحٍ ... ويحرمه الذي فيه سوارُ
وقال إبراهيم بن نصر القاضي:
جود الكريم إذا ما كان عن عدةٍ ... وقد تأخر من لم يسلم عن الكدر
إنَّ السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعا إذا هي لم تمطر على الأثر
وماطل الموعد مذمومٌو إن سمحت ... يداه من بعد طول المظل بالبدر
يا دوحة الجود لا عتب على رجلٍ ... يهزها وهو محتاج إلى الثمر!
وقال إبراهيم الصولي:
دنت باناسٍ عن تناء زيارةٌ ... وشط بليلى عن دنو مزارها
وإنَّ مقيمات بمنعرج اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
وقال أبن دارج القسطلي من قصيدة:
ألم تعلمي أنَّ الثواء هو النوى ... وأنَّ بيوت العاجزين قبور
وقال أبو نواس في الخصيب يمدحه في قصيدة:
فما فاته جودٌ ولا حلَّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصيرُ
وإني جديرٌ إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أملتُ منك جديرُ
فإن تواني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عادرٌ وشكورُ
وقال الصاحب إسماعيل بن عباد:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابهتا فتشاكل الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنما قدحٌ ولا خمرُ
وقال أبو الفضل بن الحنزابة:
من أحمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاوياً منها على ضجرِ
إنَّ الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العلي من الشجرِ
وقال أبو نواس:
تكثر ما استطعت من الخطايا ... فانك بالغٌ رباً غفورا
ستبصر إن وردت عليه عفوا ... وتلقى سيداً ملكاً كبيرا
تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا!
وقال الطغراني لمّا ولد له مولود بعدما بلغ سبعا وخمسين من عمره:
هذا الصغير الذي وافى على كبر ... أقر عيني ولكن زاد في فكري
سبعٌ وخمسون لو مرت على حجرٍ ... لبان تأثيرها في صفحة الحجرِ
وقال عروة بن اذينة:
قالت وأبثتها سري فبحت به ... قد كنت عندي تحت الستر فاستتر!
ألست تبصر من حولي؟ فقالت لها: ... غطي هواك وما ألقى على بصري!
وهذا مثل مشهور عند الصوفية وأهل المحبة والمشاهدة والفناء رضي الله عنهم.
يحكى أنَّ السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنها وعن أسلافها مرت يوما بعروة هذا وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين فقالت له: أنت القائل: قالت وأبثتها سري. . " البيت "؟ فقال: نعم! فالتفتت إلى جوار لها كن معها فقالت: هنَّ هن حرائر إن كان خرج هذا عن قلب سليم قط! ومن ملح ما جرى بينها وبينه أيضاً إنّه مات لعروة أخ يقال له بكر فرثاه عروة بقوله:
سرى همي وهو المرء يسري ... وغاب النجم إلاّ قيد فترِ
أرقب في المجرة لك نجمٍ ... تعرص أو على المجرات يجري
لهم ما أراك له قريباً ... كأن القلب أبطن حر جمرِ
على بكر أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكر؟
فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن بكر هذا؟ فوصف لها. قالت: أهو ذلك الأسيد الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم! قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت! والأسيد تصغير أسد.
ويحكى أنَّ بعض المغنين غنى بهذا الشعر عند الوليد بن يزيد بن عبد الله الملك الأموي في مجلس أنسه فقال: من يقول هذا؟ قيل: عروة بن أذينة. فقال: وأي عيش بعد بكر هذا العيش الذي نحن فيه؟ واله لقد حجز واسعاً.
وقال عبد الله بن المعتز:
فكان ما كان مما لست اذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر!
وهذا مثل مشهور. وقبله قوله:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من مطر
فطالما نبهتني للصبوح بها ... في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم ... سود المدامع نعارون بالسحر
مزنرين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلاً من الشعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... بالسحر يكسر جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتى استعاد له ... طوعاً وأسلمني الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستتراً ... يستعجل الخطو من خوفٍ ومن حذر
فقمت أفرش خدي في الطريق له ... ذلاً وأسحب أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلالٍ كاد يفضحها ... مثل القلامة قد قصت من الظفر
فكان ما كان. . " البيت " وقال عبد الله بن طاهر:
اغتفر زلتي لتحرز فضل ... الشكر مني ولا يفوتك أحري
لا تكلني إلى التوسل بالعذر ... لعلي ألا أقوم بعذرِ!
وقال أبو نواس في مدح أهل البيت:
مطهرون نقياتٌ جيوبهم ... تجري الصلاة عليهم إنما ذكروا
من لم يكن علويا حين تنسبه ... فما له في قديم الدهر مفتخرُ
الله لمّا برا خلقاً فأتفنهم ... صفاكم واصطفاكم أيها البشرُ
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم ... علم الكتاب وما جاء به السورُ
وقال القاضي الجرجاني:
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى! ... وما علموا أنَّ الخضوع هو الفقرُ
وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهرُ
وإن قيل هذا أليس أبصرت دونه ... مواقف خيرٌ من وقفي بها العسرُ
وقال الفضل بن الربيع:
عسى وعسى يثني الزمان عنانه ... بتصريف حالٍ والزمان عثورُ
فتقضي لباناتٌ وتشفى حسائفٌ ... وتحدث من بعد الأمور أمرُ!
وقال الأمير قابوس:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا: ... هل حارب الدهر إلاّ من له خطرُ؟
أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... وتستقر بأقصى قعره الدررُ؟
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه ضررُ
ففي السماء بجوم مالها عددٌ ... وليس يكسف إلاّ الشمس والقمرُ
وحدثني بعض الأصحاب أنَّ ملك مراكش كتب إلى المعتمد بن عباد حين اعتقله بمدينة أغمات بقول الآخر:
حسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ
وساعدتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدرُ
فأجابه المعتمد من سجنه:
من ذا الذي بصروف الدهر عيرنا؟ ... لا ينكر الدهر إلاّ من له القدرُ
وفي البساتين أفانٌ منوعةٌ ... وليس يقطف إلاّ الورد والزهرُ
وفي السماء نجومٌ مالها عددٌ ... وليس يخسف إلاّ الشمس والقمرُ
والله أعلم بالمخترع! وقال الآخر وينسب لعثمان رضي الله عنه:
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن عضها حتى يضر بها الفقرُ
وما عسرةٌ فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنةٍ إلاّ ويتبعها اليسرُ
وقال أيضاً:
تفنى اللذات ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعرُ
تبقى عواقب سوءٍ من معقبها ... لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ
وقال أبن رفاعة وكان عبد الملك بن مروان لمّا قتل المصعب بن الزبير ودخل الكوفة فصعد المنبر وقال: أيها الناس إنَّ الحرب صعبة وإنَّ السلم أمن ومسرة: فاستقيموا على سبيل الهدى ودعوا الأهواء الموجبة للردى وتجنبوا فراق جماعة المسلمين ولا تكلفونا أفعال المهاجرين الأولين وأنتم لم تعملوا عملهم ولم تسلكوا سبيلهم ولا اظنكو تزدادون بعد الموعظة إلاّ صعوبة ولن تزداد وابعد الأعذار إليكم إلاّ عقوبة. فمن عاد عدنا وإن زاد زدنا وإنَّا معكم كما قال أبو قيس بن رفاعة:
من يصل ناري بلا ذنبٍ ولا ترةٍ ... يصل بنار كريمٍ غير غدارِ
أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهيٍ وإنذارِ
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خزياً ظاهر العارِ
لا ترجعن أحاديثاً ملفقةً ... لهو المقيم ولهو المدلج الساري
من كان في نفسها حوجاء يطلبها ... عندي فإني له رهنٌ بإضمارِ
أقيم عوجته إن كان ذا عوجٍ ... كما يقوم قدح النبعة الباري
وصاحب الوتر ليس الدهر يدركه ... عندي وإني لدراكٌ بأوتارِ
وقال الآخر:
رأيتك إن أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أعجبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
وهذا مثل مشهور.
وعن الأصمعي قال: كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون: جاءت! جاءت! فنظر فإذا جارية وردت الماء ما رأى الراؤون مثلها. فلما رأت إلحاح الناس بالنظر إليها أرسلت برقعا كأنه غمامة غطت شمسا. فقالت لها: تمنعين الناس من النظر إلى هذا الوجه الحسن؟ فقالت: رايتك إن أرسلت طرفك. . " البيتين "
فنظر إليها أعرابي فقال: أنا والله ممن ولى صبره! ثم أنشد:
أوحشية العينين أين لك الأهل؟ ... أب الحزن حلوا أم محلهم السهلُ؟
وأية أرض أخرجتك فإنني ... أراك من الفردوس أنسأك الأصلُ
أم البدر أنشأك المنير فإن يكن ... لبدر الدجى نسلٌ فأنت له نسلُ
حسنت فأما الوجه منك فمشرقٌ ... وعينان كحلاوان زينهما كحلُ
قفي خبرينا ما طعمت وما الذي ... شربت ومن أين استقل بك الرحلُ
فإنَّ علامات الجنان مبنيةٌ ... عليك وإنَّ الشك يشبهه الشكلُ
وقال:
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضعٍ تمرا إلى أرض خيبرا
وقال يحيى بن طالب الحنفي:
تعزيت عنها كارها فتركتها ... وكان فريقها أمرَّ من الصبرِ
وكان يحيى هذا سخيا جوادا. ثم إنّه ركبه دين فادح فجلا عن اليمامة إلى بغداد يسأل السلطان في قضاء دينه. فأراد رجل من أهل اليمامة الشخوص إليها من بغداد فشيعه يحيى. فلما جلس الرجل في الزورق ذرفت عينا يحيى فأنشأ يقول:
أحقاً عباد الله أن لست ناظراً ... إلى قرقرا يوماً وأعلامها الخضر؟
إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاك الهوى واهتاج قلبك للذكرِ
أقول لموسى والدموع كأنها ... جداول ماء في مساربها تجري:
ألا هل لشيخٍ وأبن ستين حجةً ... بكى طرباً نحو اليمامة من عذر؟
كأن فؤادي كلما مر راكبٌ ... جناح غرابٍ رام نهضاً إلى وكرِ
يزهدني في كل خيرٍ صنعته ... إلى الناس ما جربت من قلة الشكرِ
فيا حزناً ماذا أجن من الهوى ... ومن مضمر الشوق الدخيل إلى حجر؟
تعزيت عنها كارها. . " البيت " وحجر بالفتح قصبة اليمامة.
ثم إنَّ الرشيد غني بشعر ليحيى هذا وهو:
أيا أثلات القاع من بطن توضحٍ ... حنيني إلى أطلالكن ويلُ
ويا أثلات القاع قد مل صحبتي ... مسيري فهل في ظلكن مقيلُ؟
ويا أثلات القاع قلبي موكلٌ ... بكن وجدوى نيلكن قليلُ
ألا هل إلى شم الخزامى ونظرةٍ ... إلى قرقرا قبل الممات سبيلُ؟
فأشرب من ماء الحجيلاء شربةً ... يداوي بها قبل الممات عليلُ
أحدث عنك النفس أن لست راجعاً ... إليك فحزني في الفؤادي دخيلُ
أريد هبوطا نحوكم فيردني ... إذا رمته دينٌ عليَّ ثقيلُ
فقال الرشيد: يقضى دينه! فلتمس فإذا هو مات قبل ذلك بشهر.
وقالت جارية تخاطب نفسها:
إذا لم يكن للأمر عند حيلةٌ ... ولم يجدي بداً من الصبر فاصبري!
وكانت هذه الجارية لرجل من قيس عيلان فكان بها كلفا. ثم أصابته حاجة وجهد فقالت له: لو بعتني فلو نلت طائلا عدت به عليك! فأخرجها للبيع وعرضت على أبن معمر المذحجي فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم. فلما مضت لتدخل القصر ودعت مولاها وأنشدته:
هنيئاً لك المال الذي قد أصبته ... ولم يبق في كفي إلاّ تفكري
أقول لنفسي وهي في كرب عيشةٍ ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري!
إذا لم يكن للأمر عندك. . " البيت " فأجابها مولاها:
فلولا نبو الدهر عني لم يكن ... لفرقتنا شيء سوى الموت فاعذري
أؤوب بحزن من فراقك موجع ... أناجي به قلباً طويل التفكرِ؟
عليك سلامٌ لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلاّ أن يشاء أبن معمرِ
فقال له: خذ بيدها فهي لك وثمنها! وقال الخليل بن أحمد:
إن منت لست معي فالذكر منك معي ... يرعاك قلبي وإن غيبت عن بصري
العين تفقد من تهوى وتبصره ... وناظر القرب لا يخلو من النظر
وهو مثل مشهور للصوفية:
أما والذي لو شاء لم يخلف الهوى ... لئن غبت عن عيني لمّا غبت عن قلبي
يوهمنيك الشوق حتى كأنما ... أناجيك من قربٍ وإن لم يكن قربي
وقال الآخر:
أبلغ أخانا تولى الله صحبته ... أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه
وإنَّ قلبي موصولٌ برؤيته ... وإن تباعد عن مثواي مثواه
وقال الآخر:
إذا اشتاقت العينان منك بنظرةٍ ... تمثلت لي في القلب من كل جانبِ
وحكي عن الإمام الشبلي رضي الله عنه أنه رأى يوما مجنونا والصبيان خلفة يرمونه بالحجارة وقد أدموا وجهه وشجوا رأسه. فأخذ الشبلي يزجرهم عنه فقالوا له: يا شيخ دعنا نقتله فإنه كافر! فقال لهم: وما الذي بان لكم من كفره؟ فقالوا: يزعم أنه يرى ربه ويحادثه. فقال: أمسكوا عليَّ قليلا! فتقدم الشبلي فوجده يتحدث ويضحك ويقول في أثناء ذلك: هذا جميل منك تسلط عليَّ الصبيان ليشغلوني عنك! فقال: يا شبلي وما الذي قالوا؟ قال: تقول إنك ترى ربك وتحدثه. فصاح صيحة عظيمة ثم قال: يا شبلي نعم وحق من تيمني بحبه وهيمني بين بعده وقربه! لو احتجب عني طرفة عين لتقطعت من البين. ثم ولى وهو يقول:
لئن غبت عن عيني وشط بك النوى ... فأنت بقلبي حاضرٌ وقريبُ
أراك بعين الوهم في مضمر الحشا ... وليس على عين الفؤاد رقيبُ
خيالك في وهمي وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيبُ؟
وقال سويد بن الصامت:
ألا ربما تدعوا صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
لسانٌ له كالشهد ما دمت حاضراً ... وبالغيب مطرورٌ على ثغرة النحر
قوله " مطرور " أي محدود تقول: طررت السكين. والثغرة بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة نقرة النحر بين الترقوتين.
غيره:
كم من أخً لك لست نكره ... ما دمت من دنياك في سترِ
متصنعٍ لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشرِ
يطري الوفاء وذا الوفاء ويلحي ... الغدر مجتهداً وذا الغدرِ
فإذا عدا والدهر ذو غيرٍ ... دهر عليك عدا مع الدهرِ
فارفض بإجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثري
وعليك من حاله واحدٌ ... في العسر إما كنت واليسرِ
لا تخلطنهم بغيرهم ... من يخلط العقبان بالصقرِ
غيره:
اخط مع الهر إذا ما خطا ... واجر مع الهر كما يجري
من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها آخر الهرِ
ليس لما ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصبرِ
ويروى:
حيلةٌ ما ليست حيلةٌ ... حسن عزاء النفس والصبرِ
وقال المخزومي:
العيب في الجاهل المغمور مغمور ... وعيب ذي الشرف المذكور مذكور
كفوفةِ الظفر تخفي من حقارتها ... ومثلها في سواد العين مشهور
ونحوه قول إبراهيم بن المهدي:
لولا الحياء وأنني مشهور ... والعيب بالرجل الكبير كبير
لحللت منزله الذي يحتله ... ولكان منزلنا هو المهجورُ
وقال أبو سليمان الخطابي:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السرورُ
وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزورُ
ولست بسائل ما دمت حياً ... أسار الجيش أم ركب الأميرُ
غيره:
لصيد اللخم في البحر ... وصيد الأسد في البرِ
وقضم الثلج في القر ... ونقل الصخر في الحرِ
وإقدام على الموت ... وتحويل إلى القبرِ
لأشهى في طلاب العز ... ممن عاش في الفقرِ
اللخم بالخاء المعجمة حيوان بحري يصعب المنال.
غيره:
خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزة ... فليس حرٌ على عجزٍ بمعذورِ
إن لم تنل في مقام ما تحاوله ... فأبل عذراً بإدلاج وتهجيرِ
لن يبلغ المرء بالإحجام حاجته ... حتى يباشرها منه بتغريرِ
حتى يواصل في أنحاء مطلبها ... سهلا بحزن وأنجاداً بتغويرِ
غيره:
لعمرك ما الزية فقد مال ... ولا شاة تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية موت نفس ... يموت بموتها بشر كثيرُ
ونحوه قول الآخر في قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه:
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
غيره:
ومن يجعل المعروف من دون أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
وسيأتي تتميم هذا الشعر وشرح قصته في الكاف إن شاء الله تعالى.
وقال شيخ من الأعراب نظر إلى امرأته تتصنع وهي عجوز:
عجوزٌ ترجى أن يكون فتيةً ... وقد لحب الجنبان واحد ودب الظهرُ
تدس إلى العطار سلعة بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ؟
وزيد فيه:
وما غرني إلاّ خضابٌ بكفها ... ونجلٌ بعينيها وأثوابها الطهرُ
وجاؤوا بها قبل المحاق بليلةٍ ... فكان محاقها كله ذلك الشهرُ!
فقالت امرأته مجيبة:
ألم تر أنَّ الناب تحلب علبةً ... ويترك ثلبٌ لاضرابٌ ولا ظهرُ؟
ثم استغاثت بالنساء واستغاث بالرجال فإذا هم خلوف فاجتمع عليه النساء فضربنه.
قوله: لحب الجنبان أي قل لحمهما يقال لحب الرجل بالكسر إذا أنحله الكبر.
قوله: سلعة بيتها يريد السويق والدقيق ونحوهما والعرب تقول لكل عرض سلعة والناب: الناقة المسنة. والعلبة بالضم: القدح العظيم من الخشب أو من جلود الإبل يحلب فيه والثلب بالثاء المثلثة على مثال قرد: الجمل إذا سقطت أسنانه هرما وتناثر شعر ذنبه تقول: إنَّ الأنثى فيها نفع وإن أسنت بخلاف الذكر إذا أسن.
وقال بعض الأدباء:
وأتم الأشياء حسناً ونوراً ... بكر شكر زفت إلى صهر بر
ما قرآن السعدين في الحوت أبهى ... منظراً من قرآن بر وشكر!
وقال سعد بن ناشب:
تفدني فيما ترى من شراستي ... وشدة نفسي أم سعدٍ وما تدري
فقلت لها: إنَّ الكريم وإن حلا ... ليلفى على حالٍ أمر من الصبرِ
وفي اللين ضعفٌ والشراسة هيبةٌ ... ومن لا يهب يحمل على مركب وعرِ
وما بي على من لأنَّ لي من فظاظةٍ ... ولكنني فظ أبي على القسرِ
أقيم صغى ذي الميل حتى أرده ... وأخطمه حتى يعود إلى القدرِ
فإن تعذليني تعذلي بي مرزءاً ... كريم نثا الإعسار مشترك اليسرِ
إذا هم ألقى بين عينيه همه ... وصمم تصميم الريجي ذي الأثرِ
قوله: كريم نثا الإعسار بتقديم النون: ذكر الرجل بجميل أو قبيح فهو مشترك. يقول إنه يثني عليه في الإعسار بخير وكرم وعفة والأثر بفتح الهمزة وكسرها: فرند السيف وهو رونقه وماؤه.
وقال سالم بن وابصة:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأنَّ به عن كل فاحشةٍ وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطاً آذى ... ولا مانعاً خيراً ولا ناطقاً هجرا
إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلةٌ ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
غني النفس ما يكفيك من سد خلةٍ ... وإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
وقال كثير وكان قد دخل على عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى فقال له: أأنت كثير؟ قال: نعم! قال: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! قال: يا أمير المؤمنين كل عند محله رحب الفناء شامخ البناء عالي السناء. ثم أنشأ يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد عصورُ
ويعجبك الطرير إذا تراه ... فيخيل ظنك الرجل الطريرُ
بغاث الطير أطولها رقاباً ... ولم تطل البزاة ولا الصقورُ
خشاش الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزورُ
ضعاف الأسد أكثرها زئيراً ... وأصرمها اللواتي لا تزيرُ
وقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعيرُ
ينوخ ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرفٌ لديه ولا نكيرُ
يقوده الصبي بكل أرضٍ ... وينحه على الترب الصغيرُ
فما عظم الرجال لهم بزينٍ ... ولكن زينتهم كرمٌ وخيرُ
فقال عبد الملك: لله دره ما أفصح لسانه! وأضبط جنانه! وأطول عنانه! والله إني لأظنه كما وصف نفسه! قوله: أسدٌ هصور الهصر بالصاد المهملة: الكسر والجذب. والمقلات: التي لا يعيش لها الأولاد. والنزور: القليلة الولد كما مر. والطرير من الرجال: ذو المنظر والرواء الحسن. والخير بالكسر: الكرم والشرف والأصل ونسب هذا الشعر أيضاً لغير كثير وهو في الحماسة.
وقال الزبرقان من بدر:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الضاري
يحكى أنَّ عمر بن أبي ربيعة بينما هو يطوف إذ بصر بامرأة في الطواف فأعجبته فكلمها فنفرت وقالت: إليك عني فإني في حرم الله وفي موضع عظيم الحرمة! فلما ألح عليها وشغلها عن الطواف ذهبت إلى بعض محارمها فقالت له: احضر معي تريني المناسك! فجاء معها فلما رآه عمر تباعد عنها فتمثلت حينئذ بهذا البيت. فبلغ المنصور خبرها فقال: وددت لو لم تبق بنت في خدرها إلاّ سمعته.
وقال الحماسي:
ومن أنتم آنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصير؟
فأنتم إلى جئتم مع البقل والدبا ... فطار وهذا شخصكم غير طائرِ
الدبا بالدال المهملة وبالباء الموحدة المفتوحتين: أصغر الجرد والنمل الواحد دباة. قال الراجز:
كأنَّ خرق قرصها المعقوب ... على دباة أو على يعسوب
وقال الآخر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكيرُ؟
حتى متى أنت منها مدنف ولهٌ ... لا يستبيك سواها البدن الحور؟
تأتي أمور فما تدري أعاجلها ... خيرٌ لنفسك أم ما فيه تأخيرُ
فاستقدر الله خيراً وارضينَّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسيرُ
وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصيرُ
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابة في الحي مسرور
حتى كأن لم يكن إلاّ تذكره ... والدهر أينما حالٍ دهاريرُ
فذاك آخر عمر من أخيك إذا ... ما ضمنت شلوه اللحد الحناشيرُ
وقال الآخر:
نصبرت مغلوباً وإني لصابرٌ ... كما صبر الضمآن في البلد القفرُ
وقبله:
يا عمرو لم اصبر ولي فيك حيلةٌ ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبرِ!
غيره:
وإنَّ سعيد الجد من بات ليلةً ... واصبح لم يشوب ببعض الكبائر
فمولاك لا يهضم لديك وإنّما ... هضيمة مولى المرء جدع المناخرِ
وجارك لا يذممك الله تعالى مسبةً ... على المرء في الأدنين ذم المجاورِ
فإن قلت فاعلم ما تقول فإنه ... إلى سامع ممن تعادي وآثرِ
فإنك لا تستطيع رد مقالةٍ ... شأتك وزلت عن فكاهة فاغرِ
كما ليس رامٍ بعد إرسال سهمه ... على رده قبل الوقوع بقادرِ
إذا أنت عاديت الرجال فلا تزل ... على حذر لا خير في غير حاذرِ
ومن لا يصانع في أمور كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بحافرِ
ترى المرء مخلوقا وللعين حظها ... وليس بإحناء الأمور بحابرِ
فذلك كماء البحر لست مسيغه ... ويعجب منه ساجياً كل ناظرِ
وتلقى الأصيل الفاضل الراي جسمه ... إذا ما مشى في القوم ليس بقاهرِ
كذلك جفن رث عن طول مكثه ... على حدّثني مفترق الغرارين باترِ
وعاش بعينيه لمّا لا يناله ... كساع برجليه لأدراك طائرِ
ومستنزل حرباع غير ثروةٍ ... كمقتحم في البحر ليس بماهرِ
وملتمس وداً لمن لا يوده ... كمعتذر يوماً إلى غير عاذرِ
ومتخذ عذراً فعاد ملالة ... كوالي اليتامى ما لهم غير وافرِ
فسارع إذا سافرت في الحمد واعلمن ... بأن ثناء الركب حظ المسافرِ
وطاوعهم فيما أرادوا وقل لهم: ... فداً للذي رمتم كلال الأباعرِ
وإن كنت ذا حظ من المال فالتمس ... به الأجر وأرفع ذكر أهل المقابرِ
فإني رأيت المال يفنى وذكره ... كظل يقيك حر الهواجرِ
وقال عروة بن المرد المعروف بعروة الصعاليك العبسي:
لحى الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزرِ
ينام ثقيلاً ثم يصبح قاعداً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفرِ
يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيمضي طليحاً كالبعير المحسرِ
ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء سراج القابس المتنورِ
مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهرِ
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المنتظرِ
فذلك إن يلق المنية يلقاها ... حميداً وإن يستغن يوما فأجدرِ
وقال الشريف الرضي:
أودى وما أودت مناقبه ... ومن الرجال معمر الذكرِ
غيره:
طربت إلى الأصيبية الصغار ... وهاجك منهم قرب المزارِ
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديارِ
وقال كثير:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغيرُ؟
تغير جسمي والخليقة مثلما ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبرُ
دخلت عزة هذه على عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى فقال: أنت عزة كثير؟ قالت: أنا أم بكر الضمرية. فقال لها: أتروين قول كثير: وقد زعمت. . " البيتين "؟ فقالت: لا اروي هذا ولكني أروي قوله:
صفوحاً فما تلقاك إلاّ بخيلةً ... فمن مل منها ذلك الوصل ملتِ
وهذا البيت من تائية كثير المشهورة التي مطلعها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلتِ!
وقال الآخر:
ما للكواعب يا عيساء قد جعلت ... تزور عني وتطوي دوني الحجرُ
قد كنت فتاح أبوابٍ مغلقةٍ ... ذب الرياد إذا ما خولس النظرُ
فقد جعلت أرى الشخصين أربعة ... والواحد اثنين مما بورك البصرُ
وكنت أمشي على رجلين معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر
غيره:
خبروها بأنني قد تزوجت ... فظلت تكاتم الغيظ سرا
وبعده:
ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً: ليته تزوج عشرا
وأشارت إلى نساء لديها ... لا ترى دونهن للسر سترا
ما لقلبي كأنه ليس مني ... وعظامي أخال فيهن فترا
من حديث نكى إلي فظيعٍ ... خلت في القلب من تلظيه جمرا؟
غيره:
شربنا من الرازي حتى كأننا ... ملوك لهم بر العراقين والنحرُ
فلما انجلت شمس النهار رأينا ... تولى الغنى عنا وعاودنا الفقرُ!
ومثله قول الأعرابي:
ولقد شربت الراح حتى خلتني ... لمّا خرجت أجر فضل المئزرِ
قابوس أو عمرو بن هند ما تلا ... يجبني له ما دون دارة قيصرِ
وقال لقيط بن زرارة:
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أو عبد المدانِ
أمشي في بني عدس بن بدر ... رخي البال منطلق اللسانِ
غيره:
إني هزئت من أم الغمر إذ هزئت ... من شيب رأسي وما بالشيب من عارِ
ما شقوة المرء بالإقتار يقتره ... ولا سعادته يوما بإكثارِ
إنَّ الشقي الذي في النار منزله ... والفوز فوز الذي ينجو من النارِ
أعوذ بالله من أمر يزين لي ... لوم العشيرة أو يدني من العارِ
وخير دنيا تنسي شر آخرةٍ ... وسوف ينبئني الجبار أخباري
لا أقرب البيت أحبو من مؤخره ... ولا أكسر في أبن العم أظافري
إن يحجب الله أبصاراً أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري
قوله: لا أقرب البيت. . الخ أي لا آتي لرؤيته كقول الآخر:
ولست بصادر من بيت جارٍ ... كفعل الغير غمره الورود
يقال: تغمره الشارب إذا لم يرو فهو يلتفت وراءه وكذا المريب وتقدم هذا قوله: ولا أكسر في أبن العم أظفاري أي لا أغتابه كقول الحطيئة:
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنيابٍ وأضراسِ
وقال جرير:
فلا تبوسوا بيني وبينكم الثرى ... فإنَّ الذي بيني وبينكم مثر
وقال عبد الحميد بن يحيى الكاتب:
أسر وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره؟
وسيأتي سبب هذا الشعر في الأعيان إن شاء الله تعالى.
غيره:
إذا كنت في نجد وطيب نعمة ... تذكرت أهلي باللوى فمحسر
وإن كنت فيهم زدت شوقاً ولوزعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري
لقد طال ما بين الفريقين موقفي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري؟
غيره:
أوليتني نعيما أبوح بشكرها ... وكفيتني كل الأمور بأسها
فلأشكرنك ما حييت وإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
وإن برقت من فخيل الصواب ... عمياء لا تجتليها الفكر
مقنعةٌ بغروب الأمر ... وضعت عليها ضحيح الفقر
لساناً كشقشقة الأرحبي ... أو كالحسام اليماني الذكر
وقلباً إذا استنطقته الغيوب ... ابر عليها بود درر
ولست بإمعةٍ في الرجال ... يسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مذرن الأصغرين ... يبين مع ما مضى ما غبر
يروى إنّه سئل عن نازلة فدخل مبادرا ثم خرج في حداء ورداء وهو متبسم. فقيل له: يا أمير المؤمنين إنك كنت إذا سئلت عن المسألة تكون فيها كالسكة المحماة. قال: إني كنت حاقنا ولا رأي لحاقن! ثم أنشأ يقول: إذا المشكلات تصدين. . " الأبيات ".
وقال أبو العباس التطيلي:
والناس كالناس إلاّ أن تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصر
كالأيك مشتبهات في منابتها ... وإنما يع التفضيل بالثمر
وقال التهامي في مثله:
ومن الرجال مجاهلٌ ومعالم ... ومن النجوم غوامض ودراري
والناس مشتبهون في إرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار
ولربما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في يمنى بغير يسار
وقال القاضي الجليس المصري:
ومن عجب أنَّ السيوف لديهم ... تحيض دماء والسيوف ذكور
وأعجب من ذا أنها بأكفالهم ... تؤجج ناراً والكف بجور
وقال أبن المعتز في التعزية:
لم تمت أنت مات من لم ... يبق للمجد والمكارم ذكرا
لست مستسقيا لقبرك غيثا ... كيف يسقى وقد تضمن بحرا؟
وقال الآخر:
وأصبر حتى يحسب الناس إنني ... بي الهجر لا والله ما بي لكم هجر!
ولكن أروض النفس أخبر هل لها ... على فرقة من بعد أحبابها صبر
وقال الآخر:
لا غرو أنَّ يصلى بهجركم ... ناراً تؤججها يد التذكار
قبلي إذا غبتم يصور شخصكم ... فيه وكل مصور في النار
وقال أبن الخطيب:
بلد يحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره
وكأنما واديه معصم فضة ... ومن الجسور المحكمات سواره
وقال أبو الربيع:
فتح الشقاق جراحها ومغنمها ... وشي الربيع، وقتلاها من الثمر
لأجل هذا إذا هبت طلائه ... تدرع النهر واهتزت قنى الشجر
وقال القاضي الشريف:
واحور وسنان الجفون مرابط ... سبى حسنه لب الحبيب وصبره
حمى ثغره عني بسيف لحاظه ... ولا غرو أنَّ يحمي المرابط ثغره!
وقال إبراهيم أبن المهدي:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر
فلم يعلم الواشون ما دار بيننا ... وقد قضيت حاجتنا بالضمائر
وقال الخوارزمي:
عليك بإظهار التجلد للعدا ... ولا تظهرن منك الذبول فتحقرا!
ألست ترى الريحان يشع يانعا ... ويطرح في الميضات مهما تغيرا؟
وقال الآخر:
تواضع إذا نلت المعالي علا ... وتكتسب الشكر الجميل من الورى
فلن يشكر الغيث الربيع محله ... قرين الثريا أو يعود إلى الثرى
وقال صالح بن شرف:
الدهر لا يبقى على حالةٍ ... لكنه يقبل أو يدبر
فإنَّ تلقاك بمكروهه ... فأصبر فإنَّ الدهر لا يصبر!
وقال الرصافي:
صون الفتى وجهه أوقى لهمته ... والرزق جارٍ على حد ومقدار
قنعت، وامتد مالي فالسماء يدي ... وبدرها درهمي والشمس ديناري
وقال أبن طباطبا العلوي:
قالت: أراك خضبت الشيب، قلت لها: ... سترته عنك يا سمعي ويا بصري
فاستضحكت ثم قالت من تعجبها: ... تكاثر الغش حتى صار في الشعر!
وقال الآخر:
إنَّ الليالي الأنام مناهل ... تطوي وتنشر بينها الأغمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
وقال الآخر:
النار آخر دينار نطقت به ... والهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما ما لم يكن ورعا ... مقلب القلب بين الهم والنار
وقال عبد الله بن طاهر:
إلى كم يكون الهجر في كل ساعةٍ ... وكم لا تملين القطيعة والهجرا!
رويدك إنَّ الدهر فيه كفاية: ... بتفريق ذات البين، فانتظر الدهرا!
وقال قيس بن الذريح:
لو إنَّ امرءاً أخفى الهوى عن ضميره ... لمت ولم يشعر بذاك ضمير
ولكن سألقى الله والقلب لم يبح ... بسرك والمستخبرون كثير!
وقال أبن خفاجة:
أرى الناس يولون الغني كرامةً ... وإنَّ لم يكن أهلا لرفعة مقدار
ويولون عن وجه الفقير وجوههم ... وإنَّ كان أهلا أم يلاقى باكبار
بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلاّ حديث أبن دينار!
وقال أبن معروف:
أحذر عدوك مرة ... وأحذر صديقك ألف مرة
فلربما أنقلب الصديق ... فكان أعلم بالضمرة!
وقال البستي:
إذا حيوان كان طعمة ضده ... توقاه كالفأر الذي يحذر الهرا
ولا شك أنَّ المرء دهره ... فما باله يا ويحه يا من الدهرا؟
وقال الآخر:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار!
لطيفة: حكي عن الجاحظ قال: عبر يوما على معلم الكتاب، فرأيت هيئة حسنة. وقام إلي وأجلسني معه، ففاتحته القرآن هو فيه ماهر. ففاتحته النحو فوجدته ماهرا، ثم في أشعار العرب واللغة كاملا في كل ما يراد منه، فقلت: قوى والله هذا عزمي الكتاب مغلقا. فسألت عنه فقيل: مات له ميت. فسرت إليه لأعزيه، فدققت الباب عليه، فخرجت جارية وقالت: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك. فقالت: هو جالس وحده في العزا، ما يعطي الطريق لأحد. فقلت: قولي له: صديقك فلان. فدخلت وخرجت وقالت: ادخل! فدخلت وقلت له: أعظم الله أجرك! لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وهذا سبيل لابد منه، فعليك بالصبر! ثم قلت له: هذا الميت ولدك؟ قال: لا. قلت: والدك؟ قال: لا. قلت: أخوك؟ قال: لا. قلت: فمن؟ قال: صفيتي. فقلت في نفسي: هذا أول المناحس! ثم قلت: سبحان الله! النساء كثير، وتجد أحسن منها. فقال لي وكأني رأيتها؟ فقلت: وهذه منحسة ثانية! ثم قلت: وكيف عشقت من لم تره؟ فقال: كنت في الطارمة فسمعت مفنيا يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... دري علي فؤادي أينما كانا!
فقلت في نفسي: لولا إنَّ أم عمرو هذا ما في الدنيا مثلها، ما قيل فيها هذا الشعر! فعلق قلبي بها.
فلما كان بعد أيام، مر بي ذلك الرجل وهو يقول:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار!
فعلمت إنّها ماتت. فحزنت ليها وجلست للعزاء منذ ثلاثة أيام. قال الجاحظ: فعادت عزيمتي وقويت على إبقاء الدفتر بأم عمرو.
وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوة إنَّ يكدرا
ولا خير في رأي إذا لم تكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
يروى إنّه لمّا انشد قصيدته هذه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ هذا الموضع قال له صلى الله عليه وسلم: لا يفضض الله فاك! فعاش مائة وعشرين سنة، لم تنفض له ثنية ببركة عليه الصلاة والسلام. وقال المكيالي:
إنَّ كنت تأنس بالحبيب وقربه ... فأصبر على حكم الرقيب وداره!
إنَّ الرقيب إذا صبرت لذله ... بواك في ربع الحبيب وداره
وقال التغري رحمه الله:
من لي بزوره أحمد الهادي الذي ... من زاره غفرت له أوزاره؟
وأحط رحلي في جوار محمّد ... لمقام عز لا يضام جواره
حوم عظيم عظمت حرامته ... واختال في خلع الرضى زواره
وقال أيضاً:
يا خير خلق الله دعوة نازح ... بانت حبته وشط مزاره
وتقسمته يد النوى فبمغرب ... أوطانه وبمشرق أوطاره
وقال:
لأولي الحجي رفع الحجاب فشاهدوا ... قمر الحجاز تلألأت أنواره
واستنقشوا أرج النسيم فساقهم ... شوقا لنجد شيحه وعراره
وقال آخر يهجو قاضي بلده:
لا مثل قاضي رأيناه ببلدتنا ... في الجهل منه وفي الجور الورى حاورا
فهو من النفر الأدين منزلةٍ ... من حاكم منه وفي الجور الورى حاورا
مسذوم بذال معجمة بلد بحمص، أو هو قرية قوم لوط. وقاضي سذوم المشهور هو الذي زعموا إنّه شكا إليه رجل مر بقوم ومعه امرأته على حمار. فضربوا الحمار وقطعوا ذنبه، فتخبط وطرح المرأة فأسقطت جنينا. فقال له: ادفع إليهم امرأتك يطؤونها حتى تحل ويردونها إليك: وأعطهم الحمار يستخدمونه حتى ينبت ذنبه ويردونه إليك! فيقال إنَّ الرجل دعا عليهم، فسخف بهم ولم يبق من أهل سذوم أحد.
وقال محي الدين الاسكندراني:
ومقعد أنَّ الرئاسة في الكبر ... فأصبح ممقوتا به وهو لا يدري
يجر ذيول العجب طالب رفعة ... ألا فأعجبوا من طالب الرفع بالجر!
وقال العرجي العثماني:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر!
ويحكى إنّه كان فتى يجاور الأمام أبا حنيفة، رضي الله عنه، وكان يشرب كل ليلة، فإذا دب فيه الشراب جعل يغني. فكان أبو حنيفة يقوم من الليل ويسهر على النظر ويانس بغنائه. وكان أكثر ما يغني بقول العرجي هذا: أضاعوني وأي فتى أضاعوا. . الخ.
وبعده:
كأني لم اكن فيهم وسيطا ... ولم تك نسبتي في آب عمر
ثم ن الفتى خرج ليلة فأخذ العسس وحبس، فقد أبو حنيفة صوته في تلك الليلة. فلما أصبح سأل عنه فقيل إنّه محبوس، فدعا بدابته وركب إلى الأمير عيسى بن موسى. فلما استأذن عليه قال: أئذنوا له وأدخلوه راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ بساطي! ففعلوا، فوسع له الأمير في مجلسه وأجلسه معه وقال: ما حاجتك؟ قال: جار لي أخذه العسس، فأمر بتخليته! قال: نعم، وكل من أخذ معه في تلك الليلة! فأطلقوا جميعا، وقيل إنّه بعد ثلاث ليال من حبسه. فقال الأمير: وكل من أخذ من تلك الليلة إلى وقتنا. وأطلق الجميع. فلما خرجوا دعا أبو حنيفة بالفتى فقال له: ألست كنت تغني أضاعوني وأي فتى أضاعوا، فهل أضعناك؟ قال: لا والله! بل حفظت وز رعيت جزاك الله خيرا، وعلي عهد الله ألا اشرب الخمر أبداً! وتاب إلى الله تعالى. وقال إسحاق الموصلي:
لاح بالمفرق منك القتير ... وذوى غصن الشباب النضير
هزئت أسماء مني وقالت: ... أنت يا أبن المصلي كبير!
ورأت شيبا علاني فأنت ... وأبن ستين بشيب جدير
إنَّ تري شيباً علاني فإنني ... مع ذاك الشيب حلو مزير
قد يفل السيف وهو جراز ... ويصول الليث وهو عقير
وقوله: حلو مزير، المزير: المعظم المكرم، وقيل الظريف؛ والسيف الجراز: القاطع. وقال الربيع بن ضبع الفزاري:
فارقنا قبل أنَّ نارقه ... لمّا قضى من جماعنا وطرا
والضمير للشباب.
وقبله:
أقفر من مية الحديب إلى ... الرحبين إلاّ الظباء والبقرا؟
كأنها درة منعمة ... من نسوة كن قبلها درراً
أصبح مني الشباب مبتكرا ... إنَّ ينأ عني فقد ثوى عصرا
وبعده:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إنَّ نفرا
والذيب أخشاه إنَّ مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدركت عمري ومولدي حجرا
أبا امرئ القيس قد سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا
وقال أعرابي من ضبة، قدم البصرة وخطب امرأة فاشترطوا عليه الصداق:
خطبت فقالوا: هات عشرين بكرة ... ودرعا وجلبابا فهذا هو المهر
وثوبين مرويين في كل شتوةٍ ... فقلت: الزنى خير من الحرب القسر!
وقال خنافر بن التوأم الحميري:
وكان مضلي من هديت برشده ... فلله مغو عاد بالرشد آمرا!
وقصته في إسلامه مشهورة في السير، فلا نطيل بسردها.
غيره:
إني رأيتك كالورقاء يستوحشها ... قرب الأليف إذا نحرا
غيره:
فإنَّ تبك للبرق الذي هيج الهوى ... أعنك وإنَّ تصبر فلست بصابر
وقبله:
سقى الله حيا بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر
أمين فادى الله ركبا إليهم ... بخير ووقاهم حمام المقادر
كأني طريف العين يوم تطاولت ... بنا الرمل سلاف القلاص الضوافر
حذار على القلب الذي لا يضره ... احاذر وشك البين أم لم يحاذر
أقول لقمقام بن زيد: أما ترى ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر؟
فإنَّ تبك. . " البيت "
غيره:
وما تعرف الأعراب مشيا بأرضها ... فكيف ببيت من رخام ومرمر؟
وهذا القائل أعرابي دخل البصرة على أبن عم له. فلما كان يوم الجمعة رآه البصري أشعث، فقال له: إنَّ الناس يتطهرون للجمعة ويتنظفون ويلبسون أحسن الملابس، فتعال ادخلك الحمام لتتنظف من شظف البادية وتتطهر للصلاة! فدخل معه الحمام، فعندما وطئ الأعرابي فرش أوّل بين الحمام لم يحشن المشي عليها لملاستها، فزلق وسقط وصدف حرف مدخل البيت وشجه الحرف في وجهه شجة منكرة، فخرج مذعور ودمه يسيل وهو ينشد:
وقالوا: تطهر إنّه يوم جمعة! ... فأبت من الحمام غير مطهر
تزودت منه شجة فوق حاجبي ... بغير جهاد بئس ما كان مجتري!
يقول لي الأعراب حين رأينني: ... به لا بظبي بالصريمة أعفر
وما تعرف الأعراب. . " البيت "
غيره:
تمنع من شميم عرار نجد ... فما بعد العيشة من عرار!
وقبله:
أقول لصاحبي والعيس تحذى ... بنابين المنيفة فالضمار
وبعده:
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضه بعد القطار
وهلك إذ يحل الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعرنا ... بإنصاف لهن ولا سرار
وإنّما نسوق مثل هذا لأنه ما من موضع أو أمر إلاّ ولك إنَّ تعتبره لنفسك نجدا، وما من طيب بل وما من خير إلاّ ولك أنَّ تعتبره عراراً، وتعتبر اغتنامه شميما، فتضرب هذا في انتهاز الفرصة من الشيء قبل فواته. وكثير ما نورد مثل هذا أو أغمض منه في هذا الكتاب، والذكي السديد يفقهه، والغبي البليد ينجهه.
وقال أبو صخر الهذلي:
إلاّ أيّها الركب النخبون هل لكم ... بساكن أجزاع الحمى لعدنا خبر؟
وقبله:
لليلى بذات الجيش دار عرفتها ... وأخرى بذات البين آياتها سطر
كأنهما ملآن لم يتغيرا ... وقد مر للدارين من بعدنا عصر
وقفت برسميها فعي جوابها فقلت وعيني دمعها سرب همر:
ألا أيّها الركب. . " البيت "
فقالوا طوينا ذاك ليلا وإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السفر
وفي النوادر لأبي على عن أبي العباس: قال عبد الله بن شبيب: حدثني أم المغوار الباهلية قالت: كنت بفناء بيتي في السحر، فمر بنا ركب، فتمثلت بهذا البيت: إلاّ أيّها الركب. . " البيت "، فأجابني غلام من صدر راحته:
فقالوا: طوينا ذلك ليلا وإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السفر
خليلي هل يستخبر المرث والغضا ... وطلح الكدى من بطن مران السدر؟
وقال المعتمد بن عباد، وقد رأى قمرية تنوح بين يديها وكر فيه طائرتان يترنمن:
بكت أنَّ رأت إلفين ضمهما وكر ... مساء وقد أخنى على إلفها الدهر
ناحت وباحت واستراحت بسرها ... وما نطقت حرفا بيوم به سر
فمالي لا أبكي أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر!
بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... وأبكي لآلاف عديدهم كثر
بني صغير أو خليل موافق ... يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر
وقال أيضا يخاطب نفسه من أبيات مشهورة:
قد كان إنَّ تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهيا ومأموراً
من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بأحلام مغروراً
وقال الراضي بالله لأبنه يخاطبه:
لا يكرثنك خطب الحادث الجاري ... فما عليك بذاك الخطب من عار
ماذا على ضيغم أمضى عزيمته ... إنَّ خانه حد أنياب وأظفار؟
لئن أتوك فمن جبن ومن خور ... قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري
وقال الوزير أبو محمد بن عبدون يرثي بيني المظفر مشهورة:
ما لليالي أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد الغير
تسر بالشيء لكن كي تغر به ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر؟
كم دوله وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك بالخبر!
هوت بدار وفلت غرب قاتله ... وكان عضبا على الأيام ذا أثر
واسترجعت من بني ساسن ما وهبت ... ولم تدع لبني يونان من أثر
وأتبعت أختها طسما وعاد على ... عادٍ وجرهم منها ناقص المرر
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوي الغايات من مضر
ومزقت سبئا في كل قاصية ... فما التقى رائح منها بمبتكر
وأنفذ في كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر
ولم ثرد على الضليل صحته ... ولا ثنت أسدا عن ربها حجر
ودوخت آل ذبيان وجيرتهم ... لخما وعضت بني بدر على النهر
وألحقت بعدي بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشعر
وبلغت يزد جرد الصين وأختزلت ... عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر
ومزقت جعفرا بالبيض واختلست ... من غيله حمزة الظلام للجرز
وأشرفت بخيب فوق فارغة ... وألصقت طلحة الفياض بالعفر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسنٍ ... وأمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ ... فدت عيها بما شاءت من البشر!
وما رعت لأبي اليقظان صحبته ... ولم تزود إلاّ الضيح في الغمر
وفي أبن هند وفي أبن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما أغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يموت من حصر
وعممت بالردى أبي انس ... ولم ترد الردى عنه قنا زفر
وأنزلت معصما من رأس شاهقةٍ ... كانت به مهجة المختار في وزر
ولم تراقب مكان الزبير ولا ... رعت عياذته بالبيت والحجر
ولم تدع لآبي الذبان قاضبة ... ليس لها عمرو بمنتصر
وأظفرت بالوليد ين اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر
ولم تعد قضب السفاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعة الفخر
وأسبلت دمعه الروح الأمين على ... دم هريق لآل المصطفى هدر
وأشرقت جعفر والفضل ينظره ... والشيخ يحيى بريق الصارم الذكر
ولا وفت بمعهود المستعين ولا ... بما تأكد للمعتز من مرر
وأوثقت في عراها كل معتمدٍ ... وأشرقت بقذاها كل مقتدر
وروعت كل مأمون ومؤتمن ... وأسلمت كل منصور ومنتصر
وقال الحاجب أبو مروان بن رزين، وقد سقط عن الفرس:
إني سقطت ولا جبن ولا خور ... وليس يدفع ما قد شاءه الذكر
لا يمشين عدوي إنَّ سقطت فقد ... تكبوا الجياد وينبو الصارم الذكر
هذا الكسوف يرى تأثيره أبدا ... ولا يعاب به شمس ولا قمر!
وقال أبو بكر بن عمار:
قالوا: اضر بك الهوى فأجبتهم: ... يا حبذاه وحبذا إضراره!
قلبي هو أختار السقام لنفسه ... زيا فخلوه وما يختاره!
عيرتموني بالنحول وإنّما ... شرف المهند وما ترق شفاره!
وقال الوزير أبو القاسم بن الجد:
عجبت لمن يهوى من الدر تومة ... وقد سال في أرجاء معدنه التبر!
وقال الوزير الفقيه أبن سراج:
بث الصنائع لا تحفل بموقعها ... فيمن نأى أو دنا ما كنت مقتدرا
كالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمام تربا كان أو حجرا
وقال الحماسي:
ولا يكشف الغماء إلاّ أبن حرةٍ ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
وقال تأبط شراً:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلاّ وهو للخطب مبصر
فذاك قريع الدهر ما عشت حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر
ومنها:
هما خطنا أما إسار ومنة ... وأما دم والقتل بالحر أجدر
وقال القطامي:
وما يعلم الغيب أمرؤ قبل إنَّ يرى ... والأمر حتى تستبين دوابره
دوابر الأمر: أواخره، جمع دابرة، كالعواقب.
وقال عبد الله بن سبرة:
إذا شالت الجوزاء والنجم طالع ... فكل مخاضات الفرات معابر
وإني إذا ضن الأمير ببابه ... على الإذن من نفسي إذا شئت قادر
وقال أبن حبناء التميمي:
إذا المرء اولاك الهوان فأوله ... هوانا وإنَّ كانت قريبا أواصره
إذا أنت عاديت أمرءاً فاطفر له ... على عثرة إنَّ امكنتك عواثره
فان أنت لن تقدر على إنَّ تهينه ... فذره إلى يوم الذي أنت قادره
وقارب إذا ما لم تك لك حيلة ... وصمم إذا أيقنت انك عاقره
وقال جميل بن عبد الله:
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيرا
أرى كل عود نابتا في أرومة ... أبى منبت العيدان إنَّ يتغيروا
وكل كسير يعلم الناس إنّه ... سوى عظم سوء لا ترى فيه مجبرا
فلا تأمن النوكى وإنَّ كان أهلهم ... وراء عدولات وكنت بقيصر!
وقوله: يعلم الناس إنّه، أي إنّه لا ينجبر سوى عظم سوء، بحذف خبر إنَّ للعلم به.
وقال التميمي يرثي منصور بن زياد:
يثني عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير
وقال سلمة الجعدي يرثي أخاه:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
وقال مسافع العبسي:
وليس وراء الشيء شيء يرده ... عليك إذا ولى سوى الصبر فاصبر
وقال منقذ الكلابي:
الدهر لاءم بين ألفتنا ... وكذلك فرق بيننا الدهر
وكذاك يفعل في تصرفه ... والدهر ليس يناله وتر
كنت الضنين بمن فجعت به ... وسلوت حين تقادم الأمر
ولخير حظك في المصيبة إنَّ ... يلقاك عند نزولها الصبر
غيره:
إياك والأمر الذي إنَّ توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن إنَّ يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر!
وقال أبن البرصاء المري:
تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... وتقبل أشبها عليك صدورها
وقال الآخر:
رأيت أخا الدنيا وإنَّ كان خافضا ... على سفر يسري به وهو لا يدري
مقيمين في دار نروح ونغتدي ... بلا أهبة الثاوي المقيم ولا سفر
وقال الرقاشي:
إلاّ ليقل من شاء ما شاء إنّما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر!
وقال الآخر، من الحماسيين:
فإنك واستبضاعك الشعر نحوها ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
وتقدم إنشاده، على غير هذا الوجه، لغير هذا الحماسي.
غيره:
وجاءت للقتال بنو هليكٍ ... فسحي يا أسماء بغير قطر!
وهذا الشاعر استعظم مجيء هؤلاء للقتال، لصغر شأنهم وهوانهم وحقارتهم عنده، فقال: سحي يا أسماء بغير قطر، أي بدم لا يقطر، استهزاء بهم وسخرية.
غيره:
ومن عجب إنَّ الصوارم في الوغى ... تحيض بأيدي القوم وهي ذكور
وأعجب منه إنّها بأكفهم ... تسعر ناراً والأكف بحور!
وقال يزيد بن مفرع الحميري
سقى الله دارا لي وأرضا تركتها ... إلى جنب دار معقل بن يسار
أبو ملك جار لها وأبن برثن ... فيالك جاري ذلة وصغار!
وذكر أبو العباس المربرد في الكامل أن سليمان بن على سأل خالد بن صفوان عن ابنيه جعفر ومحمد فقال: كيف إحمادك جوارهما يا أبا صفوان؟ فقال خالد متمثلا بهذا البيت:
أبو ملك جار لها وأبن برثن ... فيالك جاري ذلة وصغار!
قال: فأعرض عنه سليمان. وكان هذا من احلم الناس وأكرمهم وهو في ذلك الوقت والي البصرة وعم الخليفة المنصور. قال: وكان خالد بن صفوان ممن إذا عرض له القول قال: وكان الحسن رحمه الله تعالى يقال: لسان العاقل من وراء قلبه فإن عرض له القول نظر فإن كان له أن يقول قال وإن كان عليه القول أمسك. ولسان الأحمق إمام قلبه فإذا عرض له القول فال عليه أو له.
وقال الآخر:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تعار؟
وقال حجية بن مضر يمدح يعفر بن زرعة أحد الملوك، ملوك ردمان:
شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم ... وما ضاع معروف يكافئه شكرُ
وقبله:
إذا كنت سئَّالاً عن المجد والعلا ... وأين العطاء الجزل والنائل الغمرُ
فنقب عن الملوك وأهتف بيعفر ... وعش جار ظل لا يغالبه الدهرُ
أولئك قومٌ شيد الله فخرهم ... فما فوقه فخرٌ وإن عظم الفخرُ
أناس إذا ما الدهر أظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم زهرُ
يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً ... ببذل أكف دونها المزن والبحرُ
سموا في المعاليرتبة فوق رتبةٍ ... أحلتهم حيث النعائم والنسرُ
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المضيئة والبدرُ
فلو لامس الصخر الأصم أكفهم ... لفاضت ينابيع الندى ذلك الصخرُ
ولو كان في الأرض البسيطة منهم ... لمختبط عافٍ لمّا عرف الفقرُ
شكرت لكم. . " البيت " وقلت أنا معرضاً بقوم يغشون طغاما ليصيبوا منهم طعاما:
إنَّا أناس لست تبصرنا ... نتحين الطعام التي تزري
يعري الفتى ويجوع وهو يرى ... متجملاً بالصبر والبشرِ
والحرة الشماء ربما ... جاعت ولم ترضع على أجرِ
والمورد العذب الفرات إذا ... راثته حمرٌ سيم بالهجرِ
وإذا ترى طيراً بمزبلةٍ ... فالطير غير الباز والصقرِ
وإذا رأيت المرء محتسياً ... كأس الهوان فليس بالحرِ
ووقف عليها جماعة من فضلاء العصر فاستحسنوها غاية فحاولت أن أزيد عليها شيئا من هذا النمط يتم به الغرض فانجر الأمر بها حتى كانت قصيدة رأيت أن أثبتها هنا على طولها لأنها كلها أمثال وحكم وهي:
والحر حياته بسوى ... عز الجناب ورفعة القدر
لا بالطعام ولا الشرب ولا ... استلقائه بأرائك وثر
وإذا تزايلك الحياة فما ... من عيشة تبقى ولا عمر
وسؤال ذي لؤم وذي بخل ... ورجاء نعشته من العثر
أنكى لقلب أخي المروءة من ... إصلائه بلوافح الجمر
وأشد من عد الرمال ومن ... نقل الجبال ومحمل الصخر
واضر من كل النوائب إن ... عظمت عليك وكل ما شر
وتقلد للمن من يده ... غل على هاديك في الأسر
بل وخزة في القلب ناكئة ... بل طعنة في لبة النحر
وغناك عنه بالقناعة في ... حاليك من يسر ومن عسر
أجدى من الملك الذي جمعت ... أبناء هرمز غابر الهر
وألذ من سنة الشباب على ... جدة ومن وثرٍ على وثر
ولباس صونك عن تملقه ... أبهى من الأستبرق الخضر
وحلى الوقار عليك أجمل من ... أن تحتلي بقلائد النصر
وصبابة من ماء وجهك أنفس ... من رحيق سلسل غمر
فإذا عرتك الحادثات فثق ... بمليكها ذي الخلق والأمر
واصبر لروح الله مرتجياً ... فلتحمدن عواقب الصبر
إنَّ اصطبار المرء مفتتح ... متغلق البأساء والعسر
ومنفس عنه الكروب إذا ... ضاقت بهن جوانح الصدر
كم من حزين بات مكتئباً ... متسعر الأحشاء ذا أفر
لا يرتجي جلباب ليلته ... أن ينثني طرفاه بالسفر
فأتته ألطاف منفسة ... لفؤاده من حيث لا يدري
ولكم بعيد الضيق من سعة ... ولكم بعيد العسر من يسر
هل بعد معترك الظلام سوى ... بلج الصباح وطلعة الفجر
أو بعد ظمأة هجمة وردت ... غير ارتواء جانب الغدرِ
أو بعد خانقة التلاع سوى ... فيح الفجاج وفسحة البهر
وإذا تحاول نيل مكرمة ... فانهض إليها نهضة الشمر
وأركب جواد الجد مكتفيا ... ذيل الملالة منك والفتر
فلربَّ ذي أمل على ملل ... ومهدر في العنة الحجر
والربَّ ذي رعد على صلف ... فتراه يخلق ثم لا يفري
ومخاطراً بالنفس فيه فما ... يرجى الخطير بغير ذي خطر
وأعلم بأنَّ الغوص في لجج ... خضر يخف لجالب الدر
وتعسف القنن الصعاب علي ... خصب يخف لحالب الدَّر
ولدى الرياح الكثر بحمد ما ... جاب المفاوز صاحب التجر
ولدى الصباح يكون مغتبطا ... وينال بغيته الذي يسري
وتسنمن ذرى الأمور ولا ... تخلد إلى سفسافها الخضر
واعلم بأنك ما استطبت جنى ... إلاّ لطيب الجذر والبذر
والكرم يجدي المجتني عنباً ... والشوك لا يجدي سوى الشصر
ولكم ترى مرعى ولست ترى ... كرعاية السعدان والثغر
والناس كالغوغاء هائمة ... لو كان يبلو الناس ذو خبر
والمرء كل المرء بينهم ... ذو الملبس الزاهي وذو الوفر
لا ينظرون إلى الوفاء ولا ... فصل الذكاء وثاقب الفكر
لو أقبلت دغة لهش لها ... كل إذا راحت إلى دثر
أو جاء قيس يستغيث صدى ... لم يسق إن أمسى أخا فقر
لم يدروا أنَّ الكمال لذي ... فضل الندى والحلم والحجر
لا ذي الحلى المسبور مائله ... أعطافه بالزهو والكبر
فالعجب بالملبوس من سخف ... في اللب وهو لربة الخدر
والسيف ليس يشينه خلق ... في الجفن وهو العضب ذو الأثر
وكذا ذبول المتن ليس يرى ... عيبا على الخطية السمر
والطرف ليس يعاب من ضمر ... يعشاه بعد تداول الحصر
ولكم ترى نبتاً يلد على ... شحبٍ وكم من ناعم مر
ولكم ترى دمناً تعاف إذا ... تشتم وهي أنيقة الزهر
فتوخ في الناس الوفى إذا ... عاشرتهم وحذار ذا الغدر
واسبرهم قبل الإخاء ولا ... تغتر في الأخوان بالسبر
كم من أخ مذق الوداد على ... ما فيه من إحن ومن سبر
إن تلقه فالشهد مقوله ... وإذا تغيب يكون كالصبر
سيمى بوجهك تستميل وأن ... أدبرت عنه فكية الظهر
وإذا الزمان دعاك نائبه ... العاري إليه ترجى البر
فسيحتبيك بوعد غانيةٍ ... أو وعد عرقوب جنى التمر
وإذا تعود يظل مكتلحاً ... متغيظاً ينزو ويستشري
وإذا تصادف ذا الصفاء فكن ... منه ولو صافاك ذا حذر
وأسم سوائم سرحه طرراً ... مطروقةً من مسرح السر
وصن السرارة واللباب ولا ... تبذل له منه سوى القشر
فلربما يلوي الزمان به ... فيكون أبصر فيك بالضر
وإذا تصاحب أو تجالس أو ... تستب فالتمس ذوي القدر
فصداقة النبهاء مفخرة ... وكذا نواؤهم من الفخر
وصداقة اللؤماء معقبةٌ ... لؤما كمثل حكاك ذي العر
والساقط الداني مشاتمه ... كالبائع العقيان بالصفر
والحظ والمقدار ما حصرا ... في ذي الذكاء يبيت يستمري
بل قسمة أزلية نشأت ... بيدي مدبرها على قدر
وإذا نظرت وجدت في قرنٍ ... غمر الغنى وجهالة الغمر
وترى اللبيب يبيت في ضففٍ ... بهمومه متقسم الفكر
ليكون فضل حجى الفتى عوضاً ... عن فضل مال الأنوك الكثر
وتكون أحكام الإله جرت ... في الخلق عن غلبٍ وعن قسر
والمرء ممدودٌ له أجلٌ ... فسح مداه نصائب القبر
يسدي ويلحم في مزاولة ... ما ليس يدركه مدى العمر
ويبيع بالآل المعين وبالخزف ... الكسير نضائد التبر
وأمن تبدل زائلا صدرا ... من دائم قد باء بالخسر
فأعد لليوم الذي خضعت ... فيه الطلا لرواجف الذعر
وتحولت فيه الذين هم ... قنن الذرى شمما إلى الذر
وتدوسهم أقدام طائفةٍ ... كانت لديهم موقع السخر
وازمم ركابك للرحيل غداً ... إنَّ الخليط غدوا على ظهر
وتسل عن ليلى فقد أزفت ... عنها النوى ومضاضة الهجر!
وتخل عن كل الآلاف إلى ... ألفا ألف واصل بر!
وتسوغن بجميل صبرك ما ... تسقى بغيرهم من الصبر
وف بالعهود ولا تكن ألفا ... نقضا ولو قبضا على جمر!
واعلم بان الوجه ذو شحط ... ومخاوف ومجاهل غبر!
فارتد خفير إنابة ولجا ... والعلم خريتا إذا تسري!
وتزودن وخير زادك من ... تقوى المهيمين سامع الأمر!
وأجعل مزاد الصدق محكمة ... وتخيرين نجائب الصبر!
وتخير الرفقاء مجتنبا ... قرب الددان وصحبة المزري
وإذا ارتحلت فلا تشذ وسر ... وسط الخليط ومعظم السفر!
وحذار رحلك يقتفي سبلا ... عن نهجهم فيضل في القفر!
وارع البطاح إذا مرعن ولا ... تترقين بحالق وعر!
وإذا الرياح عصفن في شرفٍ ... فلتسهلن أو غل في جحر!
وإذا ظمئت ففي الأصيل فرد ... فردا عن الضوضاء والكدر!
وإذا رأيت سفينة خرقت ... فتأن لا تجعل إلى النكر!
وإذا تكون نزيل ذي كرم س ... رحب الذرى متفضل غمر
لا يعدم العافي نداه ولا ... يعتل عن ذهل ولا فقر
فأرح فؤادك أنَّ يكون به ... هم إلى زاد على ذكر!
وحذار أنَّ يلقاك مرتجيا ... ما يجتنيه سواه من جبر
وكن الخلي وأنت ضائفه ... عار النزيل على الذي يقري!
وإذا الهوى ناواك محتفلا ... ومجمعا بمعسكر مجر
فلتعددن ما استطعت من وجل ... وضارعة فتدال بالنصر
واستمددن من واهب رؤوفٍ ... نورا يقيك مداحض الحكر
وكل الأمور إليه ملتجئا ... متبريا ملحول والارز!
وإذا حللت بساطه فغدا ... يسقيك صرف عتيقة الخمر
فلترعين أدب الجليس ولا ... تغتل حجاك غوائل السكر!
وإذا مليك الدار في طرفٍ ... منها أناخ مطاك أو عقر
فالزم مناخك أو يحوله ... برضى الجنان وغاية السكر
ولتعتزز بحماه معتصما ... ناهيك من سند ومن حظر!
وثقن بما أولاك من عدة ... فالنقد موعد مفضل مثري!
وتجلى في ثوبي عبودته ... ناهيك من شمم ومن ذكر!
وتحل بالخلق الجميل على ... لقيا الورى وحوادث العصر!
ولتلقهم وحشاك مشربه ... صاف من الشحناء والغمر!
وبليغ نصحك للقصي وللأدنى ... سوي السر والهجر
واجعل معاقرة المنون على ... بالٍ فيا ناهيك من ذخر!
وقال الآخر:
إلى كم يكون الصد في كل ساعةٍ ... وكم لا تملين القطيعة والهجرا؟
رويدك إنَّ الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين فأنظر الدهرا!
وقال الآخر:
هب النسيم فأهدى نشرهم سحرا ... وأزهر الروض من أنفاسهم عطرا
إني وإنَّ أبعدت عني منازلهم ... فلا أزال أروي عنهم الخبرا
قل للسعيد الذي يحظى برؤيتهم: ... أني لتحسد عيني فيكم النظرا
غيره:
وحقكم مالي على فقدكم صبر ... وما طاب لي عيش ولم يصف لي سر
وكيف يسر القلب يوما بلذةٍ ... ومنزلكم يا سادتي منزل قفر
فما الدار دار مذ نأيتم ولا الكرى ... لذيذ وحلو العيش بعدكم مر
غيره:
لو كان لي مسعد بالراح يسعدني ... لمّا انتظرت بشرب الراح إفطارا
الراح أشرف شيء أنت شاربه ... فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا
يا من يلوم على صهباء صافيةٍ ... دع الجنان ودعني أسكن النارا!
وفي لطائف المنن للتاج أبن عطاء الله أنَّ هذا الشعر أنشده منشد بين يدي الشيخ. فأنكر عنك هذا. فإنه محجوب! انتهى بالمعنى وهو بين، فإنَّ الخمر خمران، والنار ناران، والجنان جنانان. فكل يشرب بحسب ذوقه، ويقهم بمقتضى قصده.
وقال الآخر:
هلا رأيت وقائع الدهر ... أفلا تسئ الظن بالعمر؟
بينا الفتى كالطرود تمنعه ... هضباته والعضب ذو الأثر
يأبى الدنية في عشيرته ... ويجاذب الأيدي على الفخر
زل الزمان بوطء أخمصه ... ومواطئ الأقدام للعثر
غيره:
أين الملوك وما بنوه وشيدوا؟ ... ماتوا جميعا في التراب وساروا
آثارهم تنبيك عن أخبارهم ... هذي هي الأطلال والأخبار
إنَّ سلت عنهم قل لنفسك بعدهم ... لم يبق إلاّ الواحد القهار!
غيره:
يا راقد الليل مسرور بأوله ... إنَّ الحوادث قد يطرقن إسحارا
! وله:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء أعتصار
غيره:
الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر
هذا له ثمر حلو مذاقته ... وذاك ليس له طعم ولا ثمر
وقال النمر بن تولب:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
سلم الخاسر:
من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور
أبن المعتز:
لا تأمنوا من بعد خير شرا ... كم غصن أخضر صار جمرا!
الصنوبري:
محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى ... كالنار تخبرنا بفض العنبر
غيره:
كم كافر بالله أمواله ... تزداد أضعافا على كفره
والمؤمن ليس له درهم ... يزداد أيمانا على فقره!
غيره:
يا صاح إنَّ من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطنا بكل مصيبة حاله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعر!
وقال الآخر:
عتبت على الدنيا لتقيد جاهل ... وتأخير ذي علم فقالت خذ العذرا
بنو الجهل أبنائي وكل فضيلة ... فأبناؤها أبناء ضرتي والأخرى
وقال الآخر:
غائظ صديقك تكشف عن ضمائره ... وتهتك السر عن محجوب أستار
فالعود يبنيك عن مكنون باطنه ... دخانه حين تدنيه من النار!
وهكذا كقول الحكيم: إذا أردت إنَّ تعرف صديقك فأغضبه! وذلك لأن الرضى يصلح معه كل أحد، ولا يصلح على الغضب إلاّ الأصفياء الصادقون، وقليل ما هم.
غيره:
سقى الله أياما لنا لسن رجعا ... وسقيا لعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور وما ندري!
حكى أبو علي البغدادي في نوادره عن أبي بكر بن دريد عن حاتم قال: كان فتى من أهل البصرة يختلف معنا إلى الأصمعي فافتقده، فلقيت أباه فسألته عنه فقال: سألني عن بيتين كان الأصمعي يرددهما:
سقى الله أياما " البيتين "
فقلت له: يا بني، انك لست بعاشق، ولولا ذلك لعرفت ما يفعله الذكر بصاحبه! قال: فبعثته عشق لجاجا.
ولنكتف بهذا القدر من الباب مخافة السآمة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
2 مايو 2024
تعليقات (0)