المنشورات
اشتدي زيم!
الاشتداد هنا العدو؛ وزيم بكسر الزاي ز فتح الياء المثناة من تحت بوزن عنب اسم فرس. وهذا في شعر للحطم القيسي يقول:
هذا أوان الشد فاشتري زيم وتمثل به الحجاج في خطبته الكوفية.
قال أبو العباس المبرد في الكامل: حدثني الثوري في إسناد ذكره آخره عبد الملك أبن عمر الليثي قال: بينما نحن بالمسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة إذ ذاك في حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق! فإذا به قد دخل المسجد معتماً بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدا سيفاً متنكباً قوساً يؤم المنبر فمكث ساعة لا يتكلم. فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق! حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى تنظر! فلما رأى عيون الناس أليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:
أنا أبن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني!
ثم قال: يا أهل الكوفة أني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى! ثم تمثل فقال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبلٍ ولا غنم ... ولا بجزارٍ على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفا الليل بعصلبي ... أوزع خراجٍ من الدوي
مهاجرٍ ليس بأعرابي
وقال:
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وترعد ... مثل ذراع البكر أو اشد!
أي: والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز التين. ولق فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة. وإنَّ أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا واصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل! فإنكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف. وإني والله ما أقول إلاّ وفيت ولا أهم إلاّ أمضيت ولا أخلق إلاّ فريت! وإنَّ أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم إلى محاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني اقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذه عطاءه بثلاثة أيام إلاّ ضربت عنقه! يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين1 فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين. . فلم يقل أحدٌ منهم شيئا. فقال الحجاج: اكفف يا غلام! ثم أقبل على الناس فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئا؟ هذا أدب أبن لهيعة! أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن! اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين! فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم! لم يبق أحد في المسجد إلاّ وقال: على أمير المؤمنين السلام! ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم. فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي أبن هو أقوى مني على الأسفار أتقبله بدلا مني؟ فقال له الحجاج: نفعل أيّها الشيخ! فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا. قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه! فقال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين بدلا يوم الدار إنَّ في قتلك أيّها الشيخ لصلاحاً للمسلمين! يا حرس اضربا عنقه! فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ويأمر وليه أن يلحقه بزاده. وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
تجهز فإما أن تزور أبن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فأضحى ولو كانت خرسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي اقربا!
وفي هذه القصة ألفاظ تخفى. فقوله: أنا أبن جلا، أي المنكشف الأمر، وهو لسحيم بن واثلة وفيه كلام يأتي من حرف النون، إن شاء الله تعالى.
وقوله، أرى رؤوسا قد أينعت، أي أدركت، يقال: أينعت الثمرة إيناعا وينعت أيضاً ينعا. قال تعالى:) انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه (. وقال الشاعر في الفعل:
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا
خرفه حتى إذا أرتبعت ... ذكرت من جلت بيعا
في قباب حول دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
وقوله: هذا أوان الشد فاشتدي زيم! وهي فرس كما مر. وقال المبرد: يعني فرسا أو ناقة.
وقوله: بسواق حطم، الحطم: الذي لا يبقي من السير شيئاً، ويهلك المال بذلك. ومنه قيل النار التي لا تبقي حطمة.
وقوله: على ظهر وضم، والوضم بفتحتين كل ما يقطع عليه اللحم. وتقدم في التاء. قال الشاعر:
وفتيان صدق حسان الوجوه لا يجدون لشي ألم
من آل المغيرة لا يشهدون عند المجازر لحم الوضم
وقوله: بعصلبي، العصلب بالعين والصاد المهملتين، على مثال جحدب، والعصلبي بياء النسبة، والعصلوب: القوي الشديد الخلق، العظيم؛ وأروع أي ذكي.
وقوله: خراج من الدوي الدو بتشديد الواو؛ والدوى والداوية: الفلاة لا علم فيها ولا أمارة. قال الحطيئة:
وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي
يريد: بخروجه من الدو أنَّ يخرج من كل غماء وشدة على طريق التمثيل.
وقوله: وتر عرد، أي شديد. ويقال أيضاً عرند بالنون.
وقوله: ما يقعقع لي بالشان، واحدتها شن بالفتح، ويقال أيضاً شنة وهي قربة البالية اليابسة، فيقعقع بها فتنفر الإبل من صوتها. وضرب ذلك مثلا لنفسه في الثبات. قال النابغة:
كأنك من جمال بني أقيشٍ ... يقعقع بين رجليها بشن
وقوله: فررت عن ذكاء هنا تمام السن. ومنه قول أبن زهير: جري المذكيات غلاب.
ويطلق الذكاء أيضاً على حدة القلب. ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء
وقوله: عجم عيدانها، أي مضغها ليعرف الأصلب. قال النابغة:
فظل يعجم أعلى الروق منقبضا ... في حالك اللون صدق غير ذي أود
وقال علقمة:
سلاءه كعصل النهدي غل بها ... ذو فيئة من نوى قرآن معجوم
وقوله: طالما أوضعتم الأضياع: ضرب من السير.
وقول الأسدي: فأضحى ولو كانت خرسان دونه أي دون سفره فإنه يراها قريبة لخوفه وطاعته. وأما قول ضابئ بن الحارث: هممت ولم أفعل. . " البيت "، فكان من قصته إنّه وجب عليه حبس وأدب عند عثمان رضي الله عنه، فعثر عليه، فأحسن أدبه، فقال في ذلك:
وقائلة: إنَّ مات في السجن ضابئ ... لنعم الفتى تخلو به وتواصله!
وقائلة: لا يبعدن ذلك الفتى ... ولا تبعدن أخلاقه وشمائله
وقائلة: لا يبعدن الله ضابئا ... إذا الخصم لم يوجد له من يقاوله!
فلا تتبعي إنَّ هلكت ملامة ... فليس بعار قتل من لا أقاتله!
هممت ولم أفعل. . " البيت "
وما الفتك ما أمرت فيه الذي ... تخبر من لاقيت انك فاعله
ويشبه ما وقع لابن ضابئ ما وقع لأبي شجرة السلمي، وكان من فتاك العرب. فأذى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ليحمله، فقال له عمر: ومن أنت؟ قال: أنا أبو شجرة السلمي. فقال له عمر: ألست القائل، حيث ارتددت:
ورويت رمحي من كتيبة خالدٍ ... وإني لأرجو بعدها أعمرا
وعارضتها شهبا تخطر بالقنا ... ترى البيض في حافاتها والسنورا؟
ثم أنحى عليه بالدرة. فسعى إلى ناقة وحل عقالها وأقبل بها حرة بني سليم باحث سير هربا من الدرة وهو يقول:
قد ضن عنها أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوما له ورق
فمال يضربني حتى خذيت له ... وجال من دوني بعض الرغبة الشفق
ثم التفت إليها وهي حانية ... مثل الرتاج أنا ما لزه الغلق
في أبيات.
وقوله: وكل متخبط يوما له ورق، أي كل مسؤول فله فضل يسيده، ونوال يوليه وأصل في الشجرة انك تختبطها ببعضها ونحوها، فيسقط ورقها. قال زهير:
وليس مانع ذي قربى ولا رحمٍ ... يوما ومعدم من خابط ورقا
قوله: حتى خذيت له، يقال: خذاله، وخذئ له بالفتح والكسر مهموزا واستخذى له، إذا خضع له وانقاد؛ وخذا يخذوا وخذوا إذا استرخى وخذيت أذنه بالكسر تخذى، إذا استرخت من أصلها وانكسرت، مقبلة على الوجه. فيحتمل أنَّ يكون قوله: خذيت له، من المهموز أو غيره.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
3 مايو 2024
تعليقات (0)