المنشورات

وفود الزرقاء على معاوية

عبيد الله بن عمرو الغسّاني عن الشّعبي قال: حدّثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا: بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد، إذ ذكروا الزرقاء ابنة عدي بن غالب بن قيس الهمدانية، وكانت شهدت مع قومها صفّين، فقال: أيّكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين. قال:
فأشيروا عليّ في أمرها. فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها. قال: بئس الرأي أشرتم به عليّ؛ أيحسن بمثلي أن يتحدّث عنه أنه قتل امرأة بعد ما ظفر بها.
فكتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محارمها وعدّة من فرسان قومها، وأن يمهّد لها وطاء لينا، ويسترها بستر خصيف «1» ، ويوسّع لها في النفقة؛ فأرسل إليها عامله فأقرأها الكتاب، فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إليّ فإني لا آتيه، وإن كان حتم فالطاعة أولى. فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به.
فلما دخلت على معاوية قال: مرحبا وأهلا، قدمت خير مقدم قدمه وافد! كيف حالك؟
قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة.
قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت أو طفلا ممهدا.
قال: بذلك أمرناهم، أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم. قال:
ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفّين يوم صفين تحضّين على القتال وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر.
قال لها معاوية: صدقت، أتحفظين كلامك يومئذ؟
قالت: لا والله لا أحفظه، ولقد أنسيته.
قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين: أيها الناس، ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة غشّتكم «1» جلابيب الظّلم، وجارت بكم عن قصد المحجّة، فيالها فتنة عمياء، صمّاء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تنساق لقائدها، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص، فكأن قد اندمل شعب الشّتات «2» ، والتأمت كلمة العدل، ودمغ الحقّ باطله؛ فلا يجهلنّ أحد فيقول: كيف العدل وأنّى؟ ليقض الله أمرا كان مفعولا. ألا وإنّ خضاب النساء الحنّاء، وخضاب الرجال الدماء، ولهذا اليوم ما بعده:
والصبر خير في الأمور عواقبا إيها في الحرب قدما غير ناكصين «1» ولا متشاكسين.
ثم قال لها: والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه.
قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك؛ فمثلك بشّر بخير وسرّ جليسه.
قال أو يسرّك ذلك؟ قالت: نعم والله، لقد سررت بالخبر فأنّي لي بتصديق الفعل.
فضحك معاوية وقال: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته.
اذكري حاجتك.
قالت يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألّا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا، ومثلك أعطى عن غير مسألة، وجاد عن غير طلبة.
قال: صدقت! وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسا.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید