فخرجت والله متحيرا لا ادري أين أقصد ولا حيث أذهب؛ فبينما أنا أجيل الفكرة، إذ أخذتني سماء بفطر متدارك، فدفعت على دار على بابها روشن «3» مطلّ ودكان نظيف وليس عليه أحد؛ فقلت: أستتر بالروشن إلى أن يسكن المطر.
فقصدت قصد الدار، فإذا بجارية قاعدة، قد لزمت باب الدار كالحافظة عليه؛ فقالت لي: إليك يا شيخ عن بابنا. فقلت: أنا- ويحك- لست بسائل، ولا أنا ممن تتخوّف ناحيته! فجلست على الدكان، فلما سكنت نفسي سمعت نغمة رخيمة من وراء الباب، تدلّ على نغمة امرأة: فأصغيت، فإذا بكلام يدل على عتاب؛ ثم سمعت نغمة اخرى مثل تلك، وهي تقول فعلت وفعلت! والاخرى تقول: بل انت فعلت وفعلت! إلى أن قالت إحداهما: أنا- جعلت فداك- إن كنت أسأت فاغفري؛ واحفظي فيّ بيتين لمولانا ابراهيم السويقي! فقالت الاخرى: وما قال؟ فانه يبلغني عنه اشعار ظريفة. فأنشدتها تقول:
هبيني يا معذّبتي أسأت ... وبالهجران قبلكم بدأت
فأين الفضل منك فدتك نفسي ... عليّ إذا أسأت كما أسأت
فقالت: ظرف والله وأحسن! فلما سمعت ذكري وذكر «مولانا» علمت أنهما من بعض نساء المهالبة؛ فلم أتمالك أن دفعت الباب وهجمت عليهما، فصاحتا: وراءك يا شيخ عنّا حتى نستتر! وتوهّمتا أنني من أهل الدار؛ فقلت لهما. جعلت فداكما، لا تحتشما مني؛ فإني أنا ابراهيم السويقي؛ فبالله، وبحق حرمتي منكنّ، إلّا شفّعتني فيها، ووهبت لي ذنبها، واسمعي مني فأنا الذي أقول:
خذي بيدي من الحزن الطويل ... فقد يعفو الخليل عن الخليل
أسأت فأجملي تفديك نفسي ... فما يأتي الجميل سوى الجميل
فقالت: قد فعلت وصفحت عن زلّتها «1» ؛ ثم قالت: يا أبا إسحاق، مالي أراك بهذه الهيئة الرثة والبزّة الخلقة! فقلت: يا مولاتي، تعدّى عليّ الدهر، ولم ينصفني الزمان، وجفاني الاخوان، وكسدت بضاعتي. فقالت: عزّ عليّ ذلك وأومأت «2» إلى الأخرى؛ فضربت بيدها على كمها، فسلّت دملجا «3» من ساعدها، ثم ثنت باليد الاخرى، فسلت منها دملجا آخر؛ فقالت: يا أبا اسحاق، خذ هذا واقعد على الباب مكانك وانتظر الجارية حتى تأتيك. ثم قالت: يا جارية، سكن المطر؟ قالت: نعم. فقامتا، وخرجت وقعدت مكاني؛ فما شعرت إلا والجارية قد وافت بمنديل فيه خمسة أثواب وصرّة فيها ألف درهم؛ وقالت: تقول لك مولاتي:
أنفق هذه، فإذا احتجت فصر إلينا حتى نزيدك إن شاء الله! فأخذت ذلك وقمت وقلت في نفسي: إن ذهبت بالدملجين إلى امرأتي، قالت: هذا لبناتي، وكابرتني عليهما؛ فدخلت السوق فبعتهما بخمسين دينارا وأقبلت؛ فلما فتحت الباب صاحت امرأتي وقالت: قد جئت أيضا بشؤمك! فطرحت الدنانير والدراهم بين يديها والثياب؛ فقالت: من أين هذا؟ قلت: من الذي تشاءمت به وزعمت أنه بضاعتي التي لا تجدي! فقالت: قد كانت عندي في غاية الشؤم، وهي اليوم في غاية البركة!
مصادر و المراجع :
١- العقد الفريد
المؤلف: أبو عمر،
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد
ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)
الناشر: دار
الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى،
1404 هـ
تعليقات (0)