المنشورات

أخبار الطفيليين

طفيل العرائس
: أولهم طفيل العرائس، وإليه نسب الطفيليون. وقال لأصحابه: إذا دخل أحدكم عرسا فلا يتلفّت تلفت المريب، وليتخير المجالس؛ وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظنّ أهل المرأة أنه من أهل الرجل؛ ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة؛ فإن كان البواب غليظا وقاحا فتبدأ به وتأمره وتنهاه، من غير أن تعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.
قال: يقول الطفيليون: ليس في الأرض عود أكرم من ثلاثة أعواد: عصا موسى، وخشب منبر الخليفة، وخوان الطعام.
أبو العرقين
: وكان أبو العرقين الطفيلي قد نقش في خاتمه: «اللؤم شؤم» ، فقيل له: هذا رأس التطفيل!
طفيلي بالبصرة
: أحمد بن علي الحاسب قال: مرّ طفيليّ بسكة النخع بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المجلس فقالوا له:
لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك! قال: إنما اتّخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية فأتوقّع الدعوة، والحشمة قطيعة، وطرحها صلة؛ وقد جاء في الأثر: صل من قطعك، وأعط من حرمك؛ وأنشد:
كلّ يوم أدور في عرصة الدا ... ر أشمّ القتار شمّ الذّباب «1»
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخان أو دعوة لصحاب
لم أعرّج دون التقحّم لا أر ... هب طعنا أو لكزة البواب
مستهينا بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هيّاب
فتراني ألفّ بالرغم منهم ... كلّ ما قدموه لفّ العقاب «2»
ومنهم أشعب الطماع؛ قيل له: ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتسارّان إلا ظننتهما يأمران لي بشيء! وفيه يقال: «أطمع من أشعب» .
أشعب الطماع
: وقف أشعب إلى رجل يعمل طبقا، فقال له: أسألك بالله ألا ما زدت في سعته طوقا أو طوقين! فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعلّ يهدى إليّ فيه شيء!
ساوم أشعب رجلا في قوس عربية، فسأله دينارا فقال له: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جوّ السماء وقع مشويا بين رغيفين، ما أعطيتك بها دينارا! وبينا قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون عنده حيتانا، إذ استأذن عليهم أشعب؛ فقال أحدهم: إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية، ويأكل معنا الصغار. ففعلوا وأذن له، فقالوا له:
كيف رأيك في الحيتان؟ فقال: والله إن لي عليها لحردا شديدا وحنقا، لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان! قالوا له: فدونك خذ بثأر أبيك! فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير، ثم وضعه عند أذنه- وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس- فقال: أتدرون ما يقول لي هذا الحوت؟ قالوا: لا. قال: إنه يقول:
إنه لم يحضر موت أبي ولم يدركه؛ لأن سنه يصغر عن ذلك، ولكن قال لي: عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت، فهي أدركت أباك وأكلته!
أمير وطفيلي
وكان رجل من لامراء يستظرف طفيليا يحضر طعامه وشرابه، وكان الطفيلي اكولا شروبا، فلما رأى الامير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي:
قد قلّ أكلي وقلّ شربي ... وصرت من بابة الامير «1»
فليدع بي وهو في أمان ... أن أشّرب الراح بالكبير
طفيلي في صنيع
وأقبل طفيلي إلى صنيع «2» ، فوجد بابا قد أرتج ولا سبيل إلى الوصول؛ فسأل عن صاحب الصنيع إن كان له ولد غائب او شريك في سفر؟ فأخبر عنه أن له ولد بلد كذا، فأخذ رقا أبيض وطواه وطبع عليه، ثم أقبل متدلّلا فقعقع الباب قعقعة شديدة واستفتح، وذكر أنه رسول من عند ولد الرجل؛ ففتح له الباب، وتلقاه الرجل فرحا فقال: كيف فارقت ولدي؟ قال: له بأحسن حال، وما أقدر ان اكلمك من الجوع! فأمر بالطعام فقدم إليه، وجعل يأكل؛ ثم قال له الرجل: ما كتب كتابا معك؟ قال: نعم. ودفع إليه الكتاب، فوجد الطين طريا، فقال له: ارى الطين طريا! قال: نعم وأريدك انه من الكدّ ما كتب فيه شيئا! فقال: أطفيلي انت؟ قال: نعم أصلحك الله! قال: كل لا هنأك الله!
اشعب على ثريدة
وقيل لا شعب: ما تقول في ثرده مغمور بالزبد مشققة باللحم؟ قال فأضرب كم؟
قيل له: بل تأكلها من غير ضرب. قال: هذا ما لا يكون، ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة! وقيل لمزبّد المديني، وقد أكل طعاما كظّه: قيء نقا «1» ولحم جدي! امرأتي طالق لو وجدتهما قيئا لأكلتهما! وقيل لطفيلي: ما أبغض الطعام اليك؟ قال: القريض «2» . قيل له: ولم ذا؟ قال:
لانه يؤخر إلى يوم آخر.
طفيلي وكتبة
ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم؛ قالوا:
أعرفت فينا احدا؟ قال: نعم، عرفت هذا. وأشار إلى الطعام! فقالوا: قولوا بنا فيه شعرا:
فقال الأول:
لم أر مثل سرطه ومطّه «3»
وقال الثاني:
ولفّه دجاجه ببطه
وقال الثالث:
كأنّ جالينوس تحت إبطه
فقال الاثنان للثالث: أما الذي وصفناه من فعله فمفهوم، فما يصنع جالينوس تحت إبطه؟ قال: يلقمه الجوارش كلما خاف عليه التخمة؛ تهضم بها طعامه!
الجماز وطفيلي
ومرّ طفيلي على جماز؛ فقال له ما تأكل؟ قال: [قيء] كلب في قحف خنزير! ودخل طفيلي على قوم يأكلون فقال: ما تأكلون؟ فقالوا من بغضه: سمّا! فأدخل يده وقال: الحياة حرام بعدكم! ومرّ طفيلي على قوم كانوا يأكلون وقد أغلقوا الباب دونه، فتسوّر عليهم من الجدار وقال: منعتموني من الارض فجئتكم من السماء! وقيل لطفيلي: كم اثنان في اثنين؟ قال: أربعة أرغفة.
وقيل لآخر: كم كان اصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر؟ قال: كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر درهما.
طفيلي وزنادقة حملوا للمأمون
قال محمد بن احمد الكوفي: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن عن أبيه قال: أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سمّوا له بالبصرة؛ فجمعوا، وأبصرهم طفيلي، فقال: ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع! فانسلّ فدخل وسطهم، ومضى بهم المتوكلون حتى انتهوا بهم إلى زورق قد أعدّ لهم، فدخلوا الزورق، فقال الطفيلي: هي نزهة! فدخل معهم، فلم يكن بأسرع من أن قيّدوا وقيّد معهم الطفيلي، ثم سير بهم إلى بغداد، فأدخلوا على المأمون، فجعل يدعو بأسمائهم رجلا رجلا، فيأمر بضرب رقابهم، حتى وصل إلى الطفيلي وقد استوفى العدّة، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا والله ما ندري، غير أنا وجدناه مع القوم، فجئنا به. فقال له المأمون: ما قصتك ويلك؟
قال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كان يعرف من احوالهم شيئا، ولا مما يدينون الله به؛ إنما انا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة! فضحك المأمون وقال: يؤدّب! وكان ابراهيم بن المهدي قائما على رأس المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ذنبه، واحدّثك عن حديث عجيب عن نفسي. قال: قل يا ابراهيم، قال: خرجت يا أمير المؤمنين من عندك يوما؛ فطفت في سكك بغداد متطرّبا، فانتهيت إلى موضع، فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها وإلى طيب ريحها، فوقفت على خياط فقلت: لمن هذه الدار؟ قال: لرجل من التجار من البزازين. قلت: ما اسمه؟ قال: فلان ابن فلان. فنظرت إلى الدار، فإذا بشباك فيها مطلّ، فنظرت إلى كف قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكفّ والمعصم عن رائحة القدور، وبقيت باهتا ساعة؛ ثم أدركني ذهني، فقلت للخياط: أهو ممن يشرب؟ قال: نعم، وأحسب ان عنده اليوم دعوة، وليس ينادمه إلا تجار عمل مستورون. فبينا أنا كذلك إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب، فقال الخياط: هؤلاء منادموه. فقلت: ما اسماهما وما كنا هما؟ قال: فلان وفلان. فحركت دابتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما، قد استبطأكما ابو غلان أعزه الله. وسايرتهما حتى بلغا الباب، فأدخلاني وقدّماني، فدخلنا؛ فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت عليهما من موضع؛ فرحّب بي، وأجلست في أفضل المواضع؛ فجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأتينا بتلك الالوان، فكان طعمها أطيب من ريحها؛ فقلت في نفسي: هذه الالوان قد أكلتها، وبقي الكف والمعصم، كيف اصل إلى صاحبتهما؟ ثم رفع الطعام، وجاءونا بوضوء، فتوضأنا وصرنا إلى بيت المنادمة، فإذا أشكل بيت يا أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل عليّ بالحديث. وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه على معرفة متقدمة؛ حتى إذا شربنا أقداحا، خرجت علينا جارية كأنها بان،تنثني كالخيزران فأقبلت فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة فجلست، وأتى بالعود فوضع في حجرها فجسته، فاستبنت في جسّها حذقها، ثم اندفعت تغني:
توهّمها طرفي فأصبح خدّها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
وصافحها كفّي فآلم كفّها ... فمن مسّ كفي في أناملها عقر
فجعلت يا أمير المؤمنين بلابلي تطرب لحسن شعرها، ثم اندفعت تغني:
أشرت إليها: هل عرفت مدّتي؟ ... فردّت بطرف العين: إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمدا لسرّها ... وحادت عن الإظهار أيضا على عمد
فصحت: يا سلام! وجاءني من الطرب ما لا املك نفسي معه؛ ثم اندفعت فغنت الثالث:
أليس عجيبا أن بيتا يضمّني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم؟
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه وغمز حواجب ... وتكسير أجفان وكف يسلّم
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، وأنها لم تخرج عن الفنّ الذي ابتدأت به؛ فقلت: بقي عليك يا جارية! فضربت بعودها الارض وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء! فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي؛ فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟
قالوا: بلى.
فأتيت بعود، فأصلحت من شأنه، ثم غنيت:
ما للمنازل لا يجبن حزينا ... أصممن أم قدم المدى فبلينا
راحوا العشيّة روحة منكورة ... إن متن متنا أو حيين حيينا
فما أتممته حتى قامت الجارية فأكبّت على رجلي تقبلها، وقالت: معذرة إليك! فو الله ما سمعت أحدا يغني هذا الصوت غناءك! وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا كفعلها، وطرب القوم والله واستحثوا الشراب، فشربوا بالكاسات والطاسات؛ ثم اندفعت أغني:
أبى الله أن تمشي ولا تذكرينني ... وقد سفحت عيناي من ذكرك الدّما
فردّي مصاب القلب أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاحل العقل مغرما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني وتبذل علقما «1»
إلى الله أشكو انها مداريّة ... وإني لها بالودّ ما عشت مكرما
فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا ثم اندفعت أغني الثالث:
هذا محبّك مطويّ على كمده ... حرّى مدامعه تجري على جسده «2»
له يد تسأل الرحمن راحته ... مما جنى، ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه! وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه؛ فلما شربنا اقداحا قال: يا هذا! ذهب ما مضى من أيامي ضياعا إذ كنت لا اعرفك؛ فمن انت يا مولاي؟
ولم يزل يلحّ حتى أخبرته الخبر، فقام وقبّل رأسي وقال: وأنا اعجب يا سيدي أن يكون هذا الادب إلا لمثلك، وأنّى لي أن اجالس الخلفاء ولا اشعر؟
ثم سألني عن قصتي فأخبرته، حتى بلغت خبر الكف والمعصم؛ فقال للجارية:
قومي فقولي لفلانة تنزل ... ثم لم يزل ينزل جواريه واحدة بعد اخرى، وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول:
ليست هي! حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي واختي، والله لا نزلنّهما إليك.
فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداءك، أبدأ بالاخت قبل الزوجة فعساها هي.
فبرزت، فلما رأيت كفّها ومعصمها قلت: هي هذه! فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم؛ وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، فقال للمشايخ: هذه اختي فلانة، أشهدكم اني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وامهرتها عنه عشرين ألفا! فرضيت النكاح، فدفع إليها بالبدرة، وفرق الاخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا. ثم قال: يا سيدي امهد لك بعض البيوت فتنام مع اهلك! فاحتشمني «1» ما رأيت من كرمه، فقلت: بل احضر عمارية وأحملها إلى منزلي. قال: ما شئت. فأحضرت عمارية وحملتها إلى منزلي؛ فو الله يا أمير المؤمنين، لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا؛ فأولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين.
فعجب المأمون من كرم الرجل، وأطلق الطفيليّ وأجازه، وألحق الرجل في أهل خاصته.
طفيلي وقوم يتغدون
ومرّ طفيليّ بقوم يتغدّون، فقال: سلام عليكم معشر اللئام! فقالوا: لا والله، بل كرام. فثنى رجله وجلس، وقال: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين!
الفضل بن يحيى وطفيلي
ودخل طفيليّ من اهل المدينة على الفضل بن يحيى وبيده تفاحة، فألقاها إليه وقال:
حيّاك الله يا مدني، أتأكل التحيات؟ قال: أي والله، والزاكيات الطيبات كنت آكلها!
ابراهيم الموصلي وطفيلي
وقال ابراهيم الموصلي في طفيلي كان يصحبه:
نعم النّديم نديم لا يكلّفني ... ذبح الدّجاج ولا ذبح الفراريج
يكفيه لونان من كشك ومن عدس ... وإن يشاء فزيتون بطسّوج «1»
وقال طفيليّ في نفسه:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا ... ومتى تنس يدعنا التّطفيل
ونقل: علّنا دعينا فغبنا ... وأتانا فلم يجدنا الرسول!
وقال آخر وأتى طعاما لم يدع إليه، فقيل له: من دعاك؟ فأنشأ:
دعوت نفسي حين لم تدعني ... فالحمد لي لا لك في الدعوة
وكان ذا أحسن من موعد ... مخلفه يدعو إلى الجفوه
ودخل طفيليّ في صنيع رجل من القبط، فقال له: من أرسل إليك؟ فأنشأ:
أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم ... إنّ المحبّ إذا ما لم يزر زارا
فقال القبطي: زرزارا! ليس ندري من هو؟ اخرج من بيتي!
طفيلي وزنادقة
ونظر رجل من الطفيليين إلى قوم من الزنادقة يسار بهم إلى القتل: فرأى لهم هيئة حسنة وثيابا نقية، فظنهم يدعون إلى وليمة، فتلطف حتى دخل في لفيفهم وصار واحدا منهم، فلما بلغ صاحب الشرطة قال: أصلحك الله، لست والله منهم، وإنما أنا طفيلي ظننتهم يدعون إلى صنيع فدخلت في جملتهم! فقال: ليس هذا ما ينجيك مني، اضربوا عنقه! فقال: أصلحك الله، إن كنت ولا بدّ فاعلا فأمر السياف ان يضرب بطني بالسيف، فإنه هو الذي ورّطني هذه الورطة! فضحك صاحب الشرطة، وكشف عنه، فأخبروه أنه طفيلي معروف، فخلّى سبيله.
وقال طفيلي:
ألا ليت خبزا تسربل رائبا ... وخيلا من البرنيّ فرسانها الزّبد
فأطلب فيما بينهنّ شهادة ... بموت كريم لا يشقّ له الحد
وكان أشعب يختلف إلى قينة بالمدينة يطارحها الغناء، فلما أراد الخروج إلى مكة قال لها: ناوليني هذا الخاتم الذي في أصبعك لا ذكرك به! قالت: إنه ذهب، وأخاف ان تذهب؛ ولكن خذ هذا العود، لعلك تعود.
شيخ وحدث
اصطحب شيخ وحدث من الاعراب، فكان لهما قرص في كل يوم، وكان الشيخ متخلع الاضراس بطيء الأكل، فكان الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعا، وكان اسم الحدث جعفرا، فقال الشيخ فيه:
لقد رابني من جعفر أن جعفرا ... يطيش بقرصي ثم يبكي على جمل
فقلت له مسّك الحبّ لم تبت ... سمينا وأنساك الهوى شدّة الأكل
وقال الحدث:
إذا كان في بطني طعام ذكرتها ... وإن جعت يوما لم تكن لي على ذكر
ويزداد حبّي إن شبعت تجدّدا ... وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري
أشعب وجارية
وكان أشعب يختلف إلى جارية في المدينة، ويظهر لها التعاشق، إلى ان سألته سلفة نصف درهم، فانقطع عنها، وكان إذا لقيها في طريق سلك طريقا أخرى، فصنعت له نشوقا وأقبلت به إليه، فقال لها: ما هذا؟ قالت: نشوق «1» عملته لك لهذا الفزع الذي بك! فقال: اشربيه انت للطمع [الذي بك] ؛ فلو انقطع طمعك انقطع فزعي! وأنشأ يقول:
أخلفي ما شئت وعدي ... وامنحيني كلّ صدّ
قد سلا بعدك قلبي ... فاعشقي من شئت بعدي
إنّي آليت لا أع ... شق من يعشق نقد نقدي!
لأشعب في الغناء
وقيل لاشعب: ما احسن الغناء؟ قال: نشيش «1» المقلى! قيل له. فما اطيب الزمان؟
قال: إذا كان عندك ما تنفق! وكان أشعب يغني:
ألا أخبرت أخبارا ... أتت في زمن الشّدة:
وكان الحبّ في القلب ... فصار الحبّ في المعده
وقال آخر في طفيلي من اهل الكوفة:
زرعنا، فلما تمّم الله زرعنا ... وأوفى عليه منجل بحصاد
بلينا بكفيّ حليف مجاعة ... أضرّ بزرع من دبى وجراد
وقال هشام اخو ذي الرّمة لرجل اراد سفرا: إن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضلة الزاد، فإن استطعت ان لا تكون كلب الرفاق فافعل.
أبو نواس وشطار
وخرج ابو نواس متنزها مع شطار من اصحابه، فنزلوا روضة ووضعوا شرابا، فمر بهم طفيليّ، فتطارح عليهم؛ فقال له أبو نواس. ما اسمك؟ قال: ابو الخير.
فرحب به وقعد معهم؛ ثم مرت بهم جارية فسلمت، فردّ عليها، وقال لها: ما اسمك؟
قالت: زانة. قال ابو نواس لاصحابه: اسرقوا الياء من ابو الخير، فأعطوها زانة، فتكون زانية، ويكون ابو الخير ابا الخر كما هو ففعلوا.........
الجاحظ وغيره من صنيع
: الجاحظ قال: دعا أبو عبيد الله الواسطي إلى صنيع، فدعاني، فدعوت أبا الفلوسكيّ، فلما كان من الغد صبح الفلوسكي الجاحظ فقال له: أما تذهب بنا هناك يا أبا عثمان؟ قال: نعم. قال فذهبنا حتى أتينا دار صاحب الصنيع، ولم يكن علينا كسوة رائعة ولا تحتنا دواب فتدخل تجاهنا، فوجدنا البواب ذا غلظ وجفاء، فمنعنا، فانحدرنا في جانب الإيوان ننتظر احد يعلم أبا عبد الله الواسطي بنا؛ فلما أخبر خرج إلينا يتلقانا، فتقدمني الفلوسكي وتقدمه حتى أتى صدر المجلس؛ فقعد فيه؛ ثم قال لي: ههنا عندنا يا أبا عثمان! فلما خلونا ثلاثتنا قلت للفلوسكي: كيف تسمي العرب من أمالت إلي أنفسها؟ قال الفلوسكي: تسميه ضيفا. فقال له الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيف؟ قال: تسميه ضيفنا. قال الجاحظ: وكيف تسمي من أماله الضيفن؟
قال: ما لمثل هذا عند العرب تسمية. قال الجاحظ: فقلت: قد رضيت أن تكون في منزلة من التطفيل لم تجد لها العرب اسما، ثم تتحكم تحكّم صاحب البيت.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید