المنشورات

صفة الكعبة

وبيت الله الحرام بوسط المسجد، كان ارتفاعه في عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال- والله أعلم- تسع أذرع، وطوله في الأرض ثلاثون ذراعا وعرضه اثنتان وعشرون ذراعا؛ وكان له ثلاثة سقوف؛ ثم بنته قريش في الجاهلية فاقتصرت على قواعد إبراهيم، ورفعته ثماني عشرة ذراعا، ونقصت من طوله في الأرض ست أذرع وشبرا تركته في الحجر، فلما هدمه ابن الزبير ردّه على قواعد إبراهيم ورفعه سبعا وعشرين ذراعا، وفتح له بابين: بابا إلى الشرق، وبابا إلى الغرب، يدخل على الشرقي ويخرج على الغربي، فكان كذلك حتى قتل، فلما تغلب الحجاج على مكة استأذن عبد الملك بن مروان في هدم ما كان ابن الزبير زاده من الحجر في الكعبة، فأذن له، فردّه على قواعد قريش وسدّ الباب الغربي ولم ينقص من ارتفاعه شيئا.
فذرع وجهه القبلي اليوم من الركن الأسود إلى الركن اليماني، عشرون ذراعا؛ ووجهه الجنوبي من الركن العراقي إلى الركن الشامي- وهو الذي يلي الحجر- إحدى وعشرون ذراعا؛ ووجهه الشرقي من الركن العراقي إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود، خمس وعشرون ذراعا؛ ووجهه الغربي من الركن اليماني إلى الركن الشامي، خمس وعشرون ذراعا.
وحول البيت- كله إلا موضع الركن الأسود- درجة مجصصة يكون ارتفاعها عظم الذراع في عرض مثله، وقاية للبيت من السيل؛ وباب البيت في وجهه الشرقي على قدر القامة من الأرض، طوله ست أذرع وعشر أصابع، وعرضه ثلاث أذرع وثمان عشرة إصبعا، والباب من ساج «1» ، غلظ كل باب ثلاث أصابع، ظاهرها ملبس بالذهب، وباطها بالفضة، في كل باب ستّ عوارض، ولها عروتان يضرب فيهما قفل من ذهب.
وحواجبه كلها مذهبة ما عدا الحاجب الأيمن؛ فإن العلويّ الثائر لما تغلب على مكة قلع ذهبه فترك على حاله؛ وتحت العتبة العليا عتبة مذهبة، والبابان من ورائهما، والعتبة السفلى مستورة بالديباج إلى الأرض، وبين الركن الأسود والباب خمس أذرع أو نحوها، وهو الملتزم فيما يذكر عن ابن عباس.
والحجر الأسود على رأس صخرتين من وجه الأرض، قد نحت من الصخر مقدار ما أدخل فيه الحجر، وأشفت الصخرة الثالثة عليهما مثل أصبعين والحجر أملس مجزّع «2» حالك السواد في قدر الكف المحنيّة قد لزّ من جوانبه بمسامير الفضة، وفيه صدوع، وفي جانب منه صفيحة فضة، حسبتها شظية منه شظيت فجبرت بها، وصخر الركن الأسود أحرش، أكبر من صخرنا قليلا.
وللبيت سقفان: سقف دون سقف، وفيهما أربع روازن «3» ينفذ بعضها إلى بعض للضوء، وللسقف الأسفل ثلاث جوائز من ساج منقشة مذهبة.
وفي داخل البيت في الحائط الغربي قبالة الباب، الجزعة على ست أذرع من قاع البيت، وهي سوداء مخططة ببياض، طولها اثنتا عشرة إصبعا في مثل ذلك وحولها طوق من ذهب عرضه ثلاث أصابع، ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلها على حاجبه الأيمن حين صلى في البيت.
والحجر بجوفي البيت محجور من الركن العراقي الشامي تحجيرا محنيا غير مرتفع، قد انقطع طرفاه دون الركنين اللذين يليانه بمثل ذراعين، للدخول والخروج، يكون ما بين موسطة جنبي التحجير والبيت كما بين الركنين، وارتفاع التحجير نصف قامة، وهو ملبس بالرخام من داخله وخارجه وأعلاه، وجعل بين كل رخامتين عمود من رصاص؛ وقاع الحجر كله مفروش بالرخام، ومصب الميزاب فيه، وقبلتها إليه، والميزاب موسطة أعلى جدار الكعبة، وخارجا عنه مثل أربعة أذرع في سعته، وارتفاع حيطانه ثمان أصابع، ملبس ظاهره وباطنه بصفائح الذهب، والصفائح مسمرة بمسامير مروّسة من ذهب.
والبيت كله مستور إلا الركن الأسود، فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف، وإذا دنا وقت الموسم كسي القباطيّ، وهي ديباج أبيض خراساني، فيكون بتلك الكسوة ما كان الناس محرمين، فإذا أحلّ الناس، وذلك يوم النحر حلّ البيت فكسي الديباج الأحمر الخراساني، وفيه دارات مكتوب فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام القابل، ثم يكسى أيضا على حال ما وصفت، فإذا كثرت الكسوة وخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت، وهم بنو شيبة.
وذكر بعض المصريين أنه حضر كشف البيت سنة خمس وستين، فرأى ملاطه الزعفران والّلوبان.
وذكر أيضا عن بعض المكيين حديث يرفعونه إلى مشايخهم أنهم نظروا إلى الحجر الأسود إذ هدم ابن الزبير البيت وزاد فيه، فقدّروا طوله ثلاث أذرع، وهو ناصع البياض- فيما ذكروا- إلا وجهه الظاهر؛ واسوداده فيما ذكروه- والله أعلم- لاستلام الجاهلية إياه ولطخه بالدم.
والمقام بشرقي البيت على سبع وعشرين ذراعا منه، وجه المصلّي خلفه مستقبل البيت إلى الغرب، والركن العراقي على يمينه، والباب والركن الأسود على يساره وهو فيما ذكر من رآه حجر غير مربوع يكون ذراعا في ذراع، وفيه أثر قدم إبراهيم عليه السلام، وطول القدم مثل عظم الذراع، والحجر موضوع على منبر لئلا يمرّ به السيل،فإذا كان وقت الموسم وضع عليه تابوت حديد مثقب لئلا تناله الأيدي.
وحول البيت كله سوار ستّ غلاظ مربعة من حديد مذهبة، ورءوسها مذهبة أيضا، يوقد عليها بالليل للطائفين، بين كل عمود منها والبيت نحو ما بين المقام والبيت.
وزمزم بشرقي الركن الأسود، بينهما مثل الثلاثين ذراعا، وهي بئر واسعة، تنّورها من حجر مطوّق أعلاه بالخشب، وسقفها قبو مزخرف بالفسيفساء على أربعة أركان تحت كل ركن منهما عمودان من رخام متلاصقان، وقد سد ما بين كل ركنين منهما بشرجب «1» خشب، وردّ إلى باب من جهة المشرق، وحول القبو كله مثل البرطلة»
، وبشرقي زمزم بيت مقدر، سقفه مزخرف بالفسيفساء أيضا مقفل عليه، وشرقي هذا البيت بيت كبير مربع له ثلاثة أقباء، وفي كل وجه منه باب.
وحمام المسجد كثير أنيس، يكاد الإنسان أن يطأه بقدمه، لأنسه بالناس؛ وهو في لون حمام الأبرجة عندنا، إلا أنه أقدر منه، وليس منه حمامة تجلس على البيت ولا تطير عليه، ولقد همني ذلك، فرأيتها حين تكاد أن تحاذي البيت وهي مستعلية في طيرانها ذلك، غطست حتى تصير دونه، وأخذت عن يمينه أو يساره، وزرقها ظاهر بارز على البيوت التي في المسجد، إلا بيت الله الحرام فانه نقى ليس فيه ولا عليه أثر، فسبحان معظّمه ومقدّسه ومطهّره، وتعالى علوا كبيرا! وبين باب الصفا- وهو بقبلي البيت- والصفا، الشارع، وهو ببطن الوادي؛ وبعد الشارع فناء كبير فيه الباعة، ثم الصفا في أصل جبل أبي قبيس، قد أحدق به البناء إلا من الوجه الذي يرقى إليها منه، والرقي إليها على ثلاث درج مبنية بالصخر، والواقف على الصفا مستقبل الجوف ينظر إلى البيت من باب الصفا.
والمروة بشرقي المسجد، وهي من الصفا بين المشرق والمغرب، قد أحدق بها البناء أيضا إلا من وجه المصعد إليها، وهو من أعلى القصور، بينها وبين المسجد الحرام الزقاق الضيق، فالواقف على المروة مستقبل البيت تجاه الفرجة يرى الميزاب وما اتصل به من البيت، وبين الصفا والمروة شبيه بما بين باب السقاية والمسجد الجامع، والساعي بينهما إذا هبط من الصفا يريد المروة سلك في الشارع وهو بطن الوادي، عن يمينه القصور، وعن يساره المسجد؛ ويعترضه بطن واد إذا انصب فيه أرقل «1» حتى يخرج عن آخره، وله علمان أخضران في جانبي الوادي، أحدهما وهو الأوّل خلف باب الصفا لاصق بالسور، والثاني أمامه بائن، عن السور جعلا ليفهم بهما حدّ الوادي الذي يرمل فيه.
ومنى قرية بشرقي مكة، تنحو إلى القبلة قليلا خارجة عن الحرم، على نحو الفرسخ منها؛ وفيها بنيان وسقايات، وأول ما يلقى منها الخارج من مكة إليها، جمرة العقبة، بعد يوم النحر، أيام التشريق؛ وبها مسجد أكبر من جامع قرطبة، وهو مسجد الخيف، له مما يلي المحراب أربع بلاطات معترضة، سقفها من جرائد النخل، وعمدها مجصّصة «2» ، والمنبر على يسار المحراب، والباب الذي يخرج منه الإمام عن يمينه، وفي وسط صحن المسجد منارة، وفي كل جانب منها سقيفة.
والمزدلفة، وهي المشعر الحرام، بين منى وعرفة، وهي من منى على نحو الفرسخين، ولها مسجد مجصّص لا بناء فيه إلا الحائط الذي فيه المحراب، والباب الذي يخرج منه الإمام عن يمينه، وفي الوسط صحن المسجد؛ وليس فيها ساكن.
وعرفة بشرقي منى على نحو الفرسخين منها، ليس بها ساكن ولا بناء، إلا سقايات وقنوات يجري فيها الماء، وليس بمسجدها بنيان إلا الحائط الذي فيه المحراب؛ وموقف الناس يوم عرفة بعرفة في الجبل وما يليه مما تحته؛ والجبل بين المشرق والجوف من مسجدها، وفي الموضع الذي يقف فيه الإمام ماء جار. ومحراب منى وعرفة والمزدلفة إلى نحو المغرب.










مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید