المنشورات

حديث الحسن بن هانىء مع الأسود

أو بكر الورّاق قال: قال الحسن بن هانىء: حججت مع الفضل بن الربيع، حتى إذا كنا ببلاد فزارة- وذلك إبّان الربيع- نزلنا منزلا بإزاء ماء لبنى تميم، ذا روض أريض «3» ، ونبت غريض «4» ، تخضع لبهجته الزرابي «5» المبثوثة، والنمارق «6» المصفوفة، فقرّت بنضرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء فانشق غمامها، وتدانى من الأرض ركامها، حتى إذا كانت كما قال أوس بن حجر حيث يقول:
دان مسفّ فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح «1»
همت برذاذ، ثم بطش، ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة فسرّحت طرفي راتعا منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر.
قال: فلما انتهينا إلى أوائلها، إذا نحن نجباء على بابه جارية مشرقة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، أشعرت حماليقه «2» فترة وملئت سحرا، فقلت لزميلي:
استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها. فاستسقاها، فقالت: نعم ونعمى عين، وإن نزلتم ففي الرحب والسعة! ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان «3» ، أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها؛ ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي.
ثم قلت: وصاحبي أيضا عطشان! فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك اللَّه في ملبس ... فلا بارك اللَّه في البرقع «4»
يريك عيون الدّمى غرّة ... ويكشف عن منظر أشنع
قال: وسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع ولبست خمارا أسود، وهي تقول:
ألا حيّ ربعي معشر قد أراهما ... أقاما، فما أن يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللّحظ ممن سقاهما
فشبّهت كلامها بعقد درّ وهى فانتثر، فنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها صمّ الصلاب لانبجست، مع وجه يظلم من نوره ضياء العقول، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير؛ فرقت وزلت، واستبطرت وأكملت، فلو جنّ إنسان من الحسن جننت؛ فلم أتمالك أن خررت ساجدا فأطلت من غير تسبيح.
فقالت: ارفع رأسك غير مأجور؛ لا تذمّ بعدها برقعا، فلربما انكشف عما يصرف الكرى، ويحلّ القوى، ويطيل الجوى، من غير بلوغ إرادة، ولا درك طلبة، ولا قضاء وطّر؛ ليس إلا للحين المجلوب، والقدر المكتوب، والأهل المكذوب! فبقيت واللَّه معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق، فالتفت إليّ صاحبي فقال: ما هذا الجهد بوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته؟ أما سمعت قول ذي الرمّة:
على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا!
فقالت: أمّا ذهبت إليه فلا أبالك، واللَّه لأنا بقول الشاعر:
منعّمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتجّ الروادف أهضم «1»
لها أثر صاف وعين مريضة ... وأحسن إبهام وأحسن معصم
خزاعيّة الأطراف سعدية الحشا ... فزاريّة العينين طائيّة الفم
... أشبه من قولك الآخر، ثم رفعت ثيابها حتى بلغت بها نحرها. وجاوزت منكبيها، فإذا قضيب فضة قد أشرب ماء الذهب، يهتز مثل كثيب نقا، وصدر كالوذيلة «2» عليه كالرمانتين، وخصر لو رمت عقده لانعقد، منطوي الاندماج، على كفل رجراج، وسرّة مستديرة، يقصر فهمي عن بلوغ نعتها، من تحتها أرنب جاثم، جبهته أسد خادر، وفخذان مدملجان، وساقان خدلّجان «3» يخرسان الخلاخيل، وقدمان كأنهما لسانان.
ثم قالت: أعارا ترى لا أبالك؟
قلت: لا واللَّه، ولكن سبب القدر المتاح، ومقرّبي من الموت الذباح، يضيق على الضريح، ويتركني جسدا بغير روح!
فخرجت عجوز من الخباء فقالت له: امض لشأنك، فإن قتيلها مطلول لا يودى، وأسير مكبول لا يفدى! فقالت لها: دعيه، فإنّ له مثل قولا غيلان:
وإن لم يكن إلا تعلّل ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها
فولّت العجوز وهي تقول:
وما نلت منها غير أنك نائك ... بعينيك عينيها وأيرك خائب
فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل، وكرب خابل، وأنا أقول:
يا حسرتا مما يجن فؤادي ... أزف الرحيل بعبرتي وبعادي
فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين، مررنا بذلك المنزل وقد تضاعف حسنه، وتمت بهجته؛ فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا! فلما أشرفنا على الخيام، وصعدنا ربوة ونزلنا وهدة، إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادما لأدناهنّ، وهنّ يجنين من نور ذلك الزهر.
فلما رأيننا وقفنا وقلنا: السلام عليكنّ. فقالت من بينهنّ: وعليك السلام، ألست صاحبي؟ قلت: بلى! قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم! وقصت عليهنّ القصة ما خرمت حرفا.
قلن لها: ويحك! ما زوّديته شيئا يعلل به! قالت: بلى زوّدته لحدا ضامرا، وموتا حاضرا! فانبرت لها أنضرهنّ خدّا، وأرشقهنّ قدّا، وأسحرهنّ طرفا، وأبرعهنّ شكلا؛ فقالت: واللَّه ما أحسنت بدءا، ولا أجملت عودا، ولقد أسأت في الردّ، ولم تكافئيه على الودّ: فما عليك لو أسعفته بطلبته، وأنصفته في مودّته، وإنّ المكان لخال، وإن معك من لا ينم عليك؟
فقالت: أما واللَّه لا أفعل من ذلك شيئا أو تشركيني في حلوه ومره! قالت لها: تلك إذا قسمة ضيزى «1» . تعشقين أنت وأناك أنا! قالت أخرى منهنّ: قد أطلتن الخطاب في غير أدب، فسلن الرجل عن نيته، وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتن فيه قصد.
فقلن: حيّاك اللَّه وأنعم عينا، ممن تكون؟ وممن أنت، وما تعاني؟ وإلام قصدت؟
فقلت: أمّا الاسم فالحسن بن هانىء، من اليمن، ثم من سعد العشيرة؛ وخير شعراء السلطان الأعظم، ومن يدنى مجلسه؛ ويتّقى لسانه، ويرهب جانبه؛ وأمّا قصدي فتبريد غلة، وإطفاء لوعة قد أحرقت الكبد وأذابتها! قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك اللَّه أمنيتك، وتنال بغيتك! ثم أقبلت عليهنّ فقالت: ما واحدة منكنّ غير ملتمسة مرغّبة؛ فتعالين نشترك فيه ونتقارع عليه، فمن واقعتها القرعة منا كانت هي البادئة! فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري ...
فعلّق إزار على باب الغار، وأدخلت فيه وأبطأت عليّ؛ وجعلت أتشوّف لدخول إحداهنّ عليّ، إذ دخل عليّ أسود كأنه سارية، وبيده شيء كالهراوة قد أنعظ بمثل رأس الحنيذ! قلت: ما تريد؟ قال: أنيكك! ثم صحت بصاحبي وكان متأنّيا مع الجواري؛ فو اللَّه ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هنّ يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات! فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنما إلى جانب الغار، فدعونه فوسوسن إليه شيئا فدخل عليك. فقلت: أتراه كان يفعل بي شيئا؟ فقال:
أتراك خلصت منه! فانصرفت وأنا أخزى الناس.
قال إسماعيل: فقلت: ناكك واللَّه الأسود! فقال: مالك أبعدك اللَّه! فو اللَّه لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل، حتى ضاق به صدري فرأيتك موضعا له! فبحقي عليك إن أذعته! قال إسماعيل: فما فهت به حتى مات.











مصادر و المراجع :

١- العقد الفريد

المؤلف: أبو عمر، شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)

الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت

الطبعة: الأولى، 1404 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید